"لا يمكننا إنقاذ الجميع" .. هذا ما قاله طاقم طبي إيطالي بعيون ممتلئة بالدموع، بينما يشعر بالعجز وقلة الحيلة في مواجهة أزمة فيروس كورونا المستجد التي يبدو أنها في طريقها لتصبح أكبر كارثة صحية في التاريخ، وذلك بحسب ما ذكره الطبيب الإيطالي "دانيلي ماكشيني" في منشور له على الفيسبوك.
قبل نحو شهر، وتحديدًا في الحادي والعشرين من فبراير الماضي كان لدى إيطاليا 21 حالة مؤكدة فقط مصابة بفيروس كورونا. وفي تلك المرحلة كان باستطاعة الأطباء الإيطاليين في كافة المستشفيات الحكومية أن يولوا قدرًا كبيرًا من الاهتمام بالمصابين.
وبحلول الأول من مارس الجاري، ارتفع عدد الحالات المصابة بالفيروس إلى 1701 حالة. وفي ذلك الوقت أيضًا كان لا يزال بإمكان القطاع الصحي الإيطالي أن يوفر قدرًا معقولاً من الرعاية لأولئك الذين يعانون من أخطر أعراض المرض وهو ضيق التنفس، وذلك في ضوء توافر عدد مناسب من أجهزة التنفس الصناعي لهؤلاء.
ولكن في غضون ثلاثة أسابيع فقط، وتحديدًا في الساعات الأولى من صباح الثالث والعشرين من مارس، بلغ إجمالي عدد الحالات المصابة بالفيروس 59 ألفًا و138 حالة، بينما وصل عدد الوفيات إلى 5476 حالة. وأمام هذا العدد الضخم من المصابين تعرض النظام الصحي الإيطالي لحالة من الشلل، انعكست على أعداد الوفيات.
في الأيام الأولى كان الفيروس يتركز في الشمال الإيطالي، ولكن بعد أن وصل عدد الإصابات هناك إلى 6 آلاف إصابة قررت الحكومة الإيطالية في الثامن من مارس فرض حجر صحي على شمال البلاد.
ولكن للأسف تسرب الخبر قبل موعده وهو ما تسبب في هجوم أعداد كبيرة من الإيطاليين على محطات القطار للفرار نحو الجنوب، وهكذا حملوا الفيروس معهم إلى هناك، وفي غضون عدة أيام أصبحت إيطاليا كلها موبوءة.
القرار الصعب .. لا مكان لكبار السن
إذا كنت طبيبًا في مستشفى يتكدس فيه المئات من المصابين بمرض عضال، ولا تمتلك لا الوقت ولا المجهود ولا الموارد اللازمة لإنقاذ الجميع، فمن تختار من بينهم إنقاذه؟ هذا السؤال الأخلاقي الصعب يواجه الآن العاملين في القطاع الصحي الإيطالي كل يوم. بالنسبة لك هذا مجرد سؤال افتراضي، ولكن بالنسبة للأطباء الإيطاليين فهذا سؤال حقيقي لا مفر من الإجابة عنه واتخاذ القرار.
نظرًا لتزايد أعداد المصابين بشكل متسارع ونقص الموارد والمستلزمات الطبية أصدرت الكلية الإيطالية للتخدير والإنعاش والرعاية المركزة وثيقة داخلية تتضمن إرشادات للأطباء والممرضات لاتباعها أثناء التعامل مع مرضى "كورونا" ربما أهمها "ضرورة وضع حد عمري لمن يستحق الحصول على العناية المركزة".
وتتضمن الوثيقة أيضًا العبارة المهمة التالية: "إن الدورة العلاجية للمرضى من الكبار في السن والضعاف صحيًا من الممكن أن تكون أطول وأكثر استهلاكًا للموارد من تلك الخاصة بالأشخاص الأصحاء والأصغر سنًا"، بعبارة أخرى، أصبح كبار السن الآن في إيطاليا أقل أولوية في العلاج من صغار السن، لأن فرصهم في البقاء على قيد الحياة أقل.
وفي مدينة تورينو الواقعة في شمال البلاد اقترح فريق إدارة الأزمات بالمدينة بروتوكولاً يحرم كبار السن وتحديدًا من تتجاوز أعمارهم حاجز الـ80 عامًا من الدخول إلى وحدات العناية المركزة لصالح المرضى الأصغر سنًا، وذلك في ضوء أزمة نقص أسرة المستشفيات وعدم كفاية وحدات العناية المركزة.
هذا يعني أن أعداد الوفيات من كبار السن في إيطاليا ستزداد بشكل كبير في الأيام القادمة، خصوصًا وأن 23% من سكانها البالغ عددهم نحو 60 مليونًا أكبر من 65 عامًا، وهذه أكبر نسبة في أوروبا، وثاني أكبر نسبة في العالم بعد اليابان التي يتجاوز 28% من سكانها حاجز 65 عامًا.
تشير تقديرات المعهد الوطني للصحة في إيطاليا إلى أن 58% من المرضى الذين ماتوا نتيجة الإصابة بفيروس كورونا تتجاوز أعمارهم 80 عامًا، بينما بلغت نسبة الوفيات لدى من يتجاوزون 70عامًا 31%، وذلك اعتبارًا من الرابع عشر من مارس الجاري.
كيف تسبب الشعب الإيطالي في زيادة المأساة؟
في مدينة بيرماجو الواقعة في إقليم لومبارديا الإيطالي لم يعد بإمكان ثلاجات الموتى المحلية استيعاب أعداد الوفيات، وهو ما دفع الجيش إلى نقل الكثير منهم في توابيت خشبية تحملها عربات عسكرية إلى مناطق نائية من أجل حرقها.
لم يمر سوى شهر على إعلان إيطاليا عن أول حالة إصابة بكورونا ولكن الوضع هناك أصبح يائسًا لدرجة أن رئيس الوزراء الإيطالي "جوزيبي كونتي" أصدر قرارًا بتوزيع 10 آلاف من طلاب كلية الطب الذين يستعدون للتخرج هذا العام على المستشفيات رغم عدم اجتيازهم بعدُ للامتحانات النهائية. كما تم استدعاء الأطباء المتقاعدين.
ما جعل من إيطاليا أكثر ضعفًا وأقل استعدادًا في مواجهة أزمة كورونا هو سياسات التقشف الحكومية التي طالت القطاع الصحي على مدار العقود الماضية. ففي عام 1998 كان لدى إيطاليا 311 ألف سرير للمرضى بواقع 5.8 سرير لكل ألف شخص، ولكن بحلول عام 2017 انخفض العدد إلى 191 ألف سرير بواقع 3.2 سرير لكل ألف شخص.
وفي السياق ذاته، أشارت دراسة أصدرتها مؤسسة "جيمبي" الإيطالية في سبتمبر من العام الماضي إلى أن الحكومة الإيطالية قامت بتقليص نفقات الرعاية الصحية في البلاد خلال الفترة الممتدة بين عامي 2010 و2019 بحوالي 37 مليار يورو.
أما أخطر مشاكل إيطاليا والسبب الرئيسي وراء القفزة الرهيبة التي شهدتها أعداد المصابين والوفيات في أقل من أسبوع هي عدم التزام الكثير من الإيطاليين بإجراءات الحظر ورفضهم البقاء في منازلهم واستخفافهم بالأمر في البداية وهو ما تسبب في انتشار العدوى بسرعة كبيرة بينهم.
للأسف تحايل كثير من الإيطاليين على إجراءات الحظر المفروضة معتقدين أن الأمر بعيد عنهم أو مبالغ فيه، وهو ما مهد الطريق أمام إيطاليا ليتجاوز عدد الوفيات لديها الآن نظيره في الصين منشأ المرض، لتصبح الدولة الأوروبية البؤرة الأبرز في أوروبا والعالم.
لينتبه الجميع قبل فوات الأوان
في مؤتمر صحفي عقده بجنيف يوم الجمعة الماضي، قال "مايك رايان" المدير التنفيذي لبرنامج الطوارئ لدى منظمة الصحة العالمية إن فيروس كورونا الجديد أربك الأنظمة الحية حول العالم في غضون أسابيع قليلة فقط، مشيرًا إلى أن هذا ليس أمرًا طبيعيًا وأن الوضع أكبر من أن يوصف بأنه موسم إنفلونزا سيئ.
وتابع "رايان" قائلًا إن هناك أنظمة صحية تنهار الآن تحت ضغط تزايد أعداد المصابين، مضيفًا أن ما يزيد الأمور سوءًا الضغوط الهائلة التي تتعرض لها سلاسل التوريد الخاصة بالإمدادات الطبية التي تشمل معدات الحماية الشخصية مثل الأقنعة بأنواعها والقفازات والبدلات الواقية.
في أمريكا الجنوبية وتحديدًا في فنزويلا الوضع أسوأ ما يكون، وينذر بكارثة محققة إذا ما ازداد عدد الإصابات هناك. ففي أكبر مستشفيات العاصمة لا يوجد لدى الأطباء ناهيك عن أبسط الأدوات الطبية مثل الأقنعة والقفازات، بل إن غسيل اليدين هناك رفاهية لا يمتلكها الكثير من الأطباء مما يدفع من يستطيع منهم لجلب الصابون معه.
إذا استمر الوضع على هذه الحال هناك فسيتحول الأمر إلى مأساة إنسانية قد يذهب ضحيتها ملايين الفنزويليين، ولن يمر الكثير قبل أن تصبح الدولة صاحبة أكبر احتياطيات نفطية في العالم بؤرة لنقل المرض إلى جيرانها في القارة اللاتينية.
نفس الخطر تواجهه حاليًا البرازيل التي ظل رئيسها "جايير بولسونارو" حتى أيام قليلة ماضية يقلل من خطر الفيروس ويستهزئ بالمنادين بفرض قيود صارمة لدرجة أنه وصف الفيروس بأنه "خرافة" وتعمد مصافحة عدد كبير من مؤيديه في تجمع عقد قبل أسبوع.
ولكن بعد أن اتضح أن الأمر أبعد ما يكون عن الخرافة والهزل وأنه يمثل فعلًا خطرا داهما يهدد صحة العالم أجمع وتحت ضغط الرأي العام البرازيلي الغاضب الذي طالبه بالرحيل اتخذ "بولسونارو" أخيرًا قرارات تضمنت حزمة من الإجراءات المالية بقيمة 30 مليار دولار بالإضافة إلى غلق الحدود البرية للبلاد.
باختصار، ومن دون مبالغة، إن الوضع فعلًا خطير وهناك كثير من الأنظمة الصحية حول العالم عرضة بشكل كبير للانهيار التام خلال الأسابيع القادمة. وربما السبيل الوحيد لمساعدة هذه الأنظمة على الصمود لأكبر فترة ممكنة هو تقليل عدد الإصابات، وهذا لن يحدث إلا إذا التزم الجميع بيته لكي لا يعرض نفسه ومن حوله للإصابة، وخصوصًا كبار السن، باعتبارهم الضحية الأبرز لهذا الفيروس.
لا أحد يريد أن يصبح هو أو أي من أحبائه مجرد رقم سواء من الإصابات أو الوفيات. فألف حالة وفاة مثل ألف وواحد، لا يشكل الأمر فارقًا كبيرًا بالنسبة لكثيرين. وربما يتمنى الكثير من الإيطاليين اليوم لو عاد بهم الزمن إلى الوراء والتزموا بيوتهم ولم يتحايلوا على إجراءات العزل أو يستخفوا بها.