السبت، 30 يوليو 2016

ريفيو كتاب :غزل الفقهاء للعلامة الطنطاوي





 غزل الفقهاء للعلامة الطنطاوي
من كتاب بهاريز الكتب الجزء الرابع د.صديق الحكيم
 
أنا أطلق على هذا الكتاب (ماقل ودل وجل )لأنه صفحات معدودات فتحت لي شخصيا مجالا واسعا وفكرا جديدا في التأليف والتذوق للشعر من خلال رؤية جديدة بعيدة عن التزمت
يبدأ العلامة الطنطاوي تحفته هذه قائلا:
قال لي شيخ من المشايخ المتزمتين، وقد سقط إليه عدد من الرسالة، فيه مقالة لي في الحب.

مالك والحب، وأنت شيخ وأنت قاض، وليس يليق بالشيوخ والقضاة أن يتكلموا في الحب، أو يعرضوا للغزل؟! إنما يليق ذلك بالشعراء، وقد نزه الله نبيّه عن الشعر، وترفع العلماء وهم ورثة الأنبياء عنه، وصرح الشافعي أنه يزري بهم، ولولا ذلك كان أشعر من لبيد.

فضحكت، وقلت له.

أما قمت مرة في السحر، فأحسست نسيم الليل الناعش، وسكونه الناطق... وجماله الفاتن، فشعرت بعاطفة لا عهد لك بمثلها، ولا طاقة لك على وصفها؟

أما سمعت مرة في صفاء الليل نغمة عذبة، من مغنّ حاذق قد خرجت من قلبه، فهزّت منك وتر القلب، ومسّت حبّة الفؤاد؟

أما خلوت مرة بنفسك تفكر في الماضي فتذكر أفراحه وأتراحه، وإخوانا كانوا زينة الحياة فطواهم الثرى، وعهدا كان ربيع العمر فتصرم الربيع، فوجدت فراغا في نفسك، فتلفت تفتش عن هذا الماضي الذي ذهب ولن يعود؟

أما قرأت مرة قصة من قصص الحب، أو خبراً من أخبار البطولة فأحسست بمثل النار تمشي في أعصابك، وبمثل جناح الطير يخفق في صدرك؟

أما رأيت في الحياة مشاهد البؤس؟ أما أبصرت في الكون روائع الجمال؟ فمن هو الذي يصور مشاعرك هذه؟ من الذي يصف لذائذك النفسية وآلامك، وبؤسك ونعماءك؟ لن يصورها اللغويون ولا الفقهاء ولا المحدثون، ولا الأطباء ولا المهندسون. كل أولئك يعيشون مع الجسد والعقل، محبوسين في معقلهما، لا يسرحون في فضاء الأحلام، ولا يوغلون في أودية القلب، ولا يلجون عالم النفس... فمن هم أهل القلوب؟

إنهم الشعراء يا سيدي، وذلك هو الشعر!ـ

إن البشر يكدّون ويسعون، ويسيرون في صحراء الحياة، وقيد نواظرهم كواكب ثلاثة، هي هدفهم وإليها المسير، ومنها الهدي وهي السراج المنير، وهي الحقيقة والخير والجمال، وإن كوكب الجمال أزهاها وأبهاها، إن خفي صاحباه عن بعض الناس فما يخفى على أحد، وإن قصرت عن دركهما عيون فهو ملء كل عين، والجمال بعد أسّ الحقائق وأصل الفضائل، فلولا جمال الحقيقة ما طلبها العلماء، ولولا جمال الخير ما دعا إليه المصلحون. وهل ينازع في تفضيل الجمال إنسان؟ هل في الدنيا من يؤثر الدمنة المقفرة على الجنة المزهرة؟ والعجوز الشوهاء على الصبية الحسناء؟ والأسمال البالية على الحلل الغالية؟

فكيف يكون فيها من يكره الشعر (أعني الشعر الحق، الذي يجمع سمو المعنى، وموسيقى اللفظ، لا هذا الهذيان الذي نقرؤه الآن الذي يدعونه الشعر الحديث شعر الحدأثة أي الحدث الأكبر الذي لا يتطهر منه صاحبه إلا بالغسل)، وهو جمال القول، وفتنة الكلام؟ وهو لغة القلب فمن لم يفهمه لم يكن من ذوي القلوب. وهو صورة النفس، فمن لم يجد فيه صورته لم يكن إلا جماداً. وهو حديث الذكريات والآمال، فمن لم يذكر ماضيا، ولم يرج مستقبلا، ولم يعرف من نفسه لذة ولا ألما، فليس بإنسان.
 
ومن قال لك يا سيدي إن الله نزه نبيه صلى الله عليه وسلم عن الشعر لأن الشعر قبيح؟ إنما نفى عنه أن يكون شاعرا كمن عرف العرب من الشعراء ورد عليهم قولهم: "إنه شاعر" لأن الشاعر يأتيه الوحي من داخل نفسه، والنبي يجيئه من السماء، وهذا الذي لم تدركه العرب، فقالوا قولتهم التي ردها الله عليهم!.ـ

وأين وجدت حرمة الشعر، أو مذمته من حيث هو كلام جميل، يصف شعورا نبيلا؟ إنما يقبح إذا اشتمل على الباطل، كما يقبح كل كلام يشتمل عليه.ـ

ومن أين عرفت أن العلماء قد ترفعوا عنه، والكتب مملوءة بالجيد من أشعارهم، في الحب والغزل ووصف النساء؟

أو ما سمعت بأن النبي صلى الله عليه وسلم أصغى إلى كعب وهو يهدر في قصيدته التي يتغزل فيها بسعاد… ويصفها بما لو ألقي عليك مثله لتورّعت عن سماعه… وتصاممت عنه ، وحسبت أن التقى يمنعك منه وذهبت تلوم عليه، وتنصح بالإقلاع عن قائله...ـ

وما سعاد غدة البين إذ برزت * * * كأنها منهل بالـراح معلـول

هيفـاء مقبلة عجـزاء مدبرة * * * لا يشتكي قصر منها ولا طول

وأن عمر كان يتمثّل بما تكره أنت.. من الشعر، وأن ابن عباس كان يصغي إلى إمام الغزلين عمر بن أبي ربيعة، ويروي شعره؟ وأن الحسن البصري كان يستشهد في مجلس وعظه، بقول الشاعر:ـ

اليوم عندك دلها وحديثها * * * وغدا لغيرك كفها والمعصم

وأن سعيد بن المسيب سمع مغنيا يغني:ـ

تضوع مسكا بطن نعمان إن مشت * * * به زينب في نسوة خفرات

فضرب برجله وقال: هذا والله مما يلذ استماعه، ثم قال:ـ

وليست كأخرى أوسعت جيب درعها * * * وأبدت بنـان الكف للجمـرات

وعالت فتات المسد وخفـاً مرجّـلا * * * على مثل بدر لاح في الظلمات

وقامت تراءى يـوم جمـع فأفتنت * * * برؤيتها من راح من عرفـات

فكانوا يرون هذا الشعر لسعيد بن المسيب!.ـ
وما لي أدور وأسوق لك الأخبار، وعندنا شعراء كان شعرهم أرق من النسيم إذا أسرى، وأصفى من شعاع القمر، وأعذب من ماء الوصال، وهم كانوا أئمة الدين وأعلام الهدى.ـ

هذا عروة بن أذينة الفقيه المحدث شيخ الإمام مالك يقول:ـ

إن التي زعمـت فـؤادك ملها * * * خلقت هواك كما خلقت هوى لها

فبك الذي زعمـت بها وكلاكما * * * يبدي لصاحبه الصبـابـة كلها

ويبيت بين جوانحي حـبٌّ لهـا * * * لو كان تحـت فراشهـا لأقلها

ولعمرها لو كان حبـك فوقها * * * يوماً وقد ضحيـت إذن لأظلهـا

وإذا وجدت لها وساوس سلـوة * * * شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها

بيضاء باكرها النعيـم فصاغها * * * بلبـاقـة فـأدقهـا وأجلهـا

منعـت تحيتها فقلـت لصاحبي * * * ما كان أكثـرها لنـا وأقلها!

فدنا فقـال ، لعلهـا معـذورة * * * من أجل رقبتها، فقلت : لعلها

هذه الأبيات التي بلغ من إعجاب الناس بها أن أبا السائب المخزومي لما سمعها حلف أنه لا يأكل بها طعاما إلى الليل!.ـ

وهو القائل، وهذا من أروع الشعر وأحلاه، وهذا شعر شاعر لم ينطق بالشعر تقليدا، وإنما قال عن شعور، ونطق عن حب، فما يخفى كلام المحبين:ـ

قالت ( وأبثثتها وجدي فبحت به ): * * * قد كنت عندي تحب الستر، فاستتر

ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها: * * * غطى هواك وما ألقى على بصري

هذا الشاعر الفقيه الذي أوقد الحب في قلبه نارا لا يطفئها إلا الوصال:ـ

إذا وجدت أوار الحب في كبدي * * * عمدت نحو سقاء الماء أبترد

هبني بردت ببرد الماء ظاهره * * * فمن لحر على الأحشاء يتّقد!؟

وهذا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أحد فقهاء المدينة السبعة الذين انتهى إليهم العلم، وكان عمر بن عبد العزيز يقول في خلافته: لمجلس من عبيد الله لو كان حيا، أحب إلي من الدنيا وما فيها. وإني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال، فقالوا: يا أمير المؤمنين، تقول هذا مع شدة تحريك وشدة تحفظك؟ قال: أين يذهب بكم؟ والله إني لأعود برأيه ونصيحته ومشورته على بيت المال بألوف وألوف. وكان الزهري يقول: سمعت من العلم شيئا كثيرا، فظننت أني اكتفيت حتى لقيت عبيد الله فإذا كأني ليس في يدي شيء!.ـ

وهو مع ذلك الشاعر الغزل الذي يقول:ـ

شققت القلب ثم ذررت فيـه * * * هواك فليم فالتمام الفطور

تغلغل حب عشمة في فؤادي * * * فباديه مع الخافي يسيـر

تغلغل حيث لم يبلغ شـراب * * * ولا حزن ولم يبلغ سرور

أفسمعت بأعمق من هذا الحب وأعلق منه بالقلب؟ ولم يكن يخفي ما في قلبه، بل كان إذا لقيه ابن المسيب فسأله: أأنت الفقيه الشاعر؟ يقول: "لا بد للمصدور من أن ينفث" فلا ينكر عليه ابن المسيب. وهو القائل:ـ

كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم * * * ولامـك أقـوام ولومهـم ظلـم

ونمّ عليـك الكاشحون و قبلهـم * * * عليك الهـوى قد نم لو نفع النم

وزادك إغـراء بها طـول بخلها * * * عليك وأبلى لحم أعظمك الهـم

فأصبحت كالنهدي إذ مات حسرة * * * على إثر هند أو كمن سقي السم

ألا من لنفس لا تمـوت فينقضي * * * شقاها ولا تحيا حياة لها طعـم

تجنبـت إتيـان الحبيـب تأثمـا * * * ألا إن هجران الحبيب هو الإثـم

فـذق هجـرها إن كنت تزعم أنه * * * رشاد ألا يا ربما كذب الزعـم
 
كانت هذه مقتطفات من هذا الكتاب الجليل رغم أن عدد صفحاته 21 صفحة فقط
فهو وجبة لذيذة يستمتع بها القارئ علي مهل وفي جلسة واحدة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق