الاقتصادية
تتعرض واحدة من المهن الأكثر تعقيدا في العالم لخطر وشيك: "السلفي". بيع بوليصة التأمين على الحياة كان يشتمل تقليديا على تقييم متعمق للعميل من قبل شخص مختص بتقييم المخاطر، يستخدم مجموعة جيدة من النماذج الاكتوارية. لكن الأمر أصبح مختلفا الآن.
تعتقد "لابيتوس"، وهي شركة أمريكية ناشئة، أن صور "السلفي" يمكن أن تحل مكان كثير من ذلك. ما على العميل سوى إرسال أروع صورة ذاتية عبر البريد الإلكتروني، ومن ثم ترك جهاز الكمبيوتر يتولى بقية المهمة: يمر على الصورة ويحلل آلاف الأجزاء المختلفة من الوجه.
ولا تقتصر عملية البحث على معلومات أساسية عن جنس الشخص فقط، بل أيضا عن قرائن حول مدى سرعة وصول الإنسان إلى سن الشيخوخة، ومؤشر كتلة الجسم وما إذا كان شخصا مدخنا. أجهزة الكمبيوتر التي تتسلح بهذه المعلومات وغيرها التي تحصل عليها من العملاء، تتوصل إلى ما تقول عنه "لابيتوس"، "إنه تنبؤ بمتوسط العمر أكثر دقة بكثير مما تستطيع الأساليب التقليدية التوصل إليه". ولا تستغرق العملية بأكملها سوى دقائق معدودة.
لا عجب في أن صناعة التأمين تشعر بالقلق إزاء تطور التكنولوجيا وإمكانية أن يُحْدث الذكاء الاصطناعي ثورة في الطريقة التي تعمل بها. الأسبوع الماضي حضر نحو 150 من المختصين الشباب في مجال التأمين عرضا في لندن بعنوان "ثورتنا الصناعية: ما الذي تعنيه بالنسبة إلينا"؟
وهم ليسوا الأشخاص الوحيدين الذين يشعرون بالقلق من المستقبل. في الاجتماع السنوي لشركة بيركشاير هاثاواي في نبراسكا هذا الشهر، حذر وارن بافيت من مخاطر التعطيل التي تواجه صناعة التأمين بسبب الذكاء الاصطناعي، المتمثلة في شكل سيارات ذاتية القيادة.
يقول نيك دافان، كبير إداريي المعلومات في شركة فيريسك لتحليل البيانات "حققنا تقدما وتراجعا في مجال الذكاء الاصطناعي على مدى 15 أو 20 عاما، لكنني أعتقد أننا وصلنا إلى نقطة الانقلاب بسبب التطورات في مجال الخوارزميات والتخزين في السحابة، والقوة الحاسوبية".
ويوفر هذا فرصا للصناعة لأن تحقق تحسنا في الطريقة التي تعمل بها، لكن هناك أيضا مخاطر تتعرض لها – لا ينحصر الأمر فقط في استبدال آلات بالمختصين في الصناعة في الوقت الذي تصبح فيه الخوارزميات أكثر قوة. على المدى الطويل، سيكون التحدي الأكبر هو أن الآلات يمكن أن تقوض هذه الصناعة من خلال منح العملاء أدوات أفضل لاتخاذ قرار ما إذا كان التأمين لازما حتى بالنسبة إليهم أم لا.
تحليل البيانات ليس أمرا جديدا في قطاع التأمين، الصناعة التي بنيت على أساس استخدام الإحصائيات لتقييم المخاطر. لكن الذكاء الاصطناعي يعمل على توسيع نطاق وحجم البيانات التي يمكن تحليلها وطريقة استخدامها.
شركات التأمين الناشئة البارعة في أمور التكنولوجيا آخذة في التحليق منذ الآن. ما تراه أمامها هو صناعة ذات طراز قديم، تضخمت بسبب الأرباح الضخمة التي تحققت في الماضي وتشعر بالتهاون إزاء حجم التغيير المطلوب. يستهدف بعضها العمل مع شركات التأمين لتطوير أساليب جديدة، لكن أخرى ترغب في تعطيل الصناعة والحصول على حصة من السوق.
في احتفال جرى أخيرا في "ساحة O2" في لندن، عرضت 11 شركة تأمين ناشئة مدعومة من قبل منظمة اسمها "ستارت أب بوت كامب" Startupbootcamp خططها للمستثمرين والعملاء المحتملين. وكانت تسع منها تستند في خططها إلى بعض أشكال الذكاء الاصطناعي أو تعلم الآلة. وكان من بينها شركة إيروبوتيكس Aerobotics التي تطبق الذكاء الاصطناعي في مجال الصور الجوية للمزارع، للمساعدة في توفير التأمين على المحاصيل. وشركة إميرج Emerge التي تستخدم تعلم الآلة لمساعدة شركات التأمين في تحسين كفاءتها.
يقول هنريك ناوجوكس، الشريك في شركة باين آند كو للاستشارات الإدارية "تظهر الشركات الناشئة ما هو ممكن ويمكن تطبيقه. ويدرس كثير من التنفيذيين الحاليين هذا الأمر - هم لا يفهمون ذلك حقا، لكنهم يرغبون في المشاركة".
ويحرص المستثمرون على الحصول على حصة في ذلك. وفقا لشركة أكسينتشر، كان الذكاء الاصطناعي واحدا من أكثر المواضيع شعبية في قطاع الاستثمار في تكنولوجيا التأمين في عام 2016، ما أدى إلى تجميع أموال تزيد على 500 مليون دولار.
يقول جون كوسانو، الرئيس العالمي لممارسات التأمين في شركة أكسينتشر "بدأت تظهر إلى حيز الوجود فكرة أن يتمكن الذكاء الاصطناعي من أن يكون له تأثير قريب المدى. لا يزال قطاع التأمين تجربة يدوية للغاية".
البدء بالأساسيات
بالنسبة إلى الوقت الراهن كان تأثير الذكاء الاصطناعي في مجال التأمين ضئيلا. يقول نايجل والش، الشريك في شركة ديلويت "إنه بالتأكيد قوة قادرة على التعطيل، لكن بإمكانك أن تعد على أصابعك عدد شركات التأمين التي طبقت ذلك على نطاق واسع".
في الوقت الراهن تقول شركات التأمين "إن الذكاء الاصطناعي أداة تساعدها بدلا من أن يكون مصدر تهديد بالتعطيل. الشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي تركز على الارتقاء بقدراتها على معالجة البيانات، أو تحسين الطريقة التي يتم فيها التواصل مع العملاء من خلال استخدام أساليب المحادثة".
تعمل شركة التأمين "أفيفا" في المملكة المتحدة على تجربة الذكاء الاصطناعي. يقول أندرو بريم، كبير الإداريين الرقميين في الشركة "في أبسط الأمور، نستخدم طبعا الروبوتات والذكاء الاصطناعي. في فرقنا الإدارية، هناك كثير من المهام المتكررة التي يجري تنفيذها حتى الآن من قبل الإنسان. عادة، الخوارزميات أكثر إنتاجية بـ 15 ضعفا".
التعامل مع المطالبات مجال آخر يجتذب كثيرا من الاهتمام. تقول شركات التأمين "إن الذكاء الاصطناعي يمكنه تحسين التعامل مع المطالبات والمساعدة في معرفة حالات الغش والاحتيال". وبدأت شركة فوكوكو اليابانية للتأمين المتبادل على الحياة باستخدام نظام ذكاء اصطناعي طورته شركة "آي بي إم" في قسم المطالبات الخاص بها، في الوقت الذي تتوقع فيه وكالة ماكينزي أن تستغني بعض شركات التأمين الأوروبية بين عامي 2015 و2025 عن ربع موظفيها ـ عندما يتعمق استخدام الأتمتة داخل الشركات.
بريم، من شركة أفيفا، يعترف بأن الإثارة الحقيقية توجد في مجالات أخرى. "المجال المثير للاهتمام هو استخدام البيانات فيما يخص تحسُّن القدرة على توقع المخاطر، مثل استخدام البيانات للتنبؤ بشكل أفضل في المخاطر الطبية. نحن نبحث عن علاقات لا تستطيع الأساليب التقليدية اكتشافها بالضرورة".
هذا هو المجال الذي من المتوقع أن يعمل فيه الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبيرة على إحداث تغييرات واسعة في قطاع التأمين؛ ليس في تسيير المعاملات وخدمة العملاء، بل في المهارات الأساسية، مثل تقييم المخاطر، حيث تقيِّم شركات التأمين – وتسعِّر - المخاطر التي يتعرض لها كل عميل.
يقول هنري بيرتون، الذي يدير "آرتيليجين"، وهي شركة ناشئة تستهدف إدخال الذكاء الاصطناعي إلى مجال التأمين التجاري "المجال الذي نرى فيه أن تعلم الآلة يُحدث تغييرات في الصناعة هو في الطريقة التي يُعِد بها العالم نماذج المخاطر ويفهمها".
استنادا إلى تلك الحجة، ستكون أجهزة الكمبيوتر أفضل بكثير من البشر المختصين بتقييم المخاطر من حيث تحليل الكم الهائل من البيانات التي تظهر كل يوم. يقول بيرتون "من دون شك، سيحل تعلم الآلة مكان النماذج الإحصائية. وكمية البيانات التي تتولد لدينا كل يوم مذهلة. تعمل السيارات ذاتية القيادة على توليد كمية بيانات هائلة تصل إلى أربعة تيرابايت يوميا. والنماذج الإحصائية لا تستطيع التعامل مع ذلك القدر الهائل من البيانات".
العام الماضي أجرت شركة أدميرال للتأمين على السيارات في المملكة المتحدة، تجربة تضمنت استخدام اللغة في منشورات "فيسبوك" لتقديم تنبؤات تتعلق بأسلوب القيادة. مثلا، يمكن للإفراط في استخدام علامات التعجب أن يشير إلى الثقة المفرطة.
لكن "فيسبوك" شعرت بالخوف وتراجعت في اللحظة الأخيرة وتم إلغاء المشروع. مع ذلك "أدميرال" لن تكون آخر شركة تأمين تبحث عن أنماط تنبؤية في أماكن جديدة وغير متوقعة. ويرى مختصون أن أجهزة الكمبيوتر المسلحة بهذه المجموعة الواسعة من البيانات ستكون قادرة، بشكل تفصيلي أكثر بكثير من قبل، على تقييم مدى الخطورة التي تحيط بكل عميل، ومقدار الرسوم التي ينبغي أن تُفرَض عليه.
يقول والش، من "ديلويت"، "الوعد الآتي من الذكاء الاصطناعي مثير إلى حد كبير. في تقييم المخاطر، تصل إلى وضع يمكنك خلاله إنشاء بوالص فريدة خاصة بكل شخص. إنه نمط أعمال مختلف إذا قيّمت المخاطر لكل شخص على حدة".
مهن مهددة
والاتجاهات العامة تكفي لأن تجعل المختصين في تقييم المخاطر من البشر يشعرون بالتوتر. نشرت جامعة أكسفورد دراسة تتعلق بتحديد المهن الأكثر عرضة للأتمتة. ودرست 702 وظيفة، حيث طلبت من مختصي تعلم الآلة والروبوتات أن يحللوا المهام المتضمنة في كل وظيفة. وكانت أعمال تقييم مخاطر التأمين قريبة جدا من أعلى القائمة، مع ظهور أربع مهن فقط اعتُبرت هي الأكثر عرضة للخطر "العاملون في مجال التسويق عن بُعد احتلوا المرتبة الأولى".
ربما ينتهي الأمر بالمختصين في تقييم المخاطر بأن يكونوا في وضع أكثر متانة مما تشير إليه الدراسة. يقول كريستوس ميتاس، نائب الرئيس لتطوير النماذج في مجموعة "آر إم إس" لتحليل البيانات "لم نصل إلى الحد الذي تكون فيه الأتمتة كلية. لم نصل إلى حالة من عدم الإشراف حيث تعمل الخوارزميات من تلقاء نفسها - لا يزال الأمر بحاجة إلى الإشراف".
ويضيف "يحتاج العنصر البشري إلى أن يكون موجودا في المستقبل المنظور. نحن نحتاج إلى تدريب الخوارزمية - ما البيانات التي تزودها بها؟ ما القيود التي يجب أن تتحرك من خلالها؟ كذلك الشفافية مهمة ونحن بحاجة إلى أن نعلم السبب وراء تصرف الخوارزمية بالطريقة التي تعمل بها".
يقول بريان موديسيت، العضو المنتدب في شركة تو سيجما لإدارة الاستثمارات، التي تعمل بالكمبيوتر "في بعض الأسواق، التأمين مفصل أكثر من غيره لأغراض خاصة، بحيث سيكون الذكاء الاصطناعي أكثر قدرة على التمكين. الآلات لن تحل مكان البشر في كل مكان. فبعض الأمور معقدة فوق الحد".
سيكون التنظيم بمنزة عامل أيضا - يتعين على شركات التأمين أن تكون قادرة على تفسير آلية تسعير السياسات لعملائها. وتصر الجهات المنظمة على أن عبارة "الكمبيوتر يقول ذلك" ليست إجابة مقبولة.
ربما يوفر ذلك الراحة لشركات التأمين التي تشعر بالقلق. في الفعالية التي أقيمت الأسبوع الماضي في لندن من قبل الموظفين المهنيين الشباب، كان هناك إجماع في الآراء على أن وظائفهم ستتغير، بدلا من أن تختفي تماما.
الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة إليهم هو خطر أن يأخذ العملاء زمام الأمور بأنفسهم. ومسألة ما إذا كانت الآلات أم البشر هم من يتولى تقييم المخاطر هي مسألة غير ذات صلة إذا قرر العملاء أنهم ليسوا بحاجة إلى المنتج على الإطلاق. ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يفضي إلى تلك النتيجة بالضبط، في الوقت الذي تعمل فيه الشركات على تطوير أدوات خاصة بها لتحليل المخاطر.
يقول بيرتون "سيظهر تأثير ذلك في حجم مبلغ التأمين الذي يدفعه الناس ونوع التأمين الذي يختارونه. نحن نرى أن ذلك فرصة ليس فقط لتمكين شركات التأمين من بناء نماذج تنبؤية ووقائية من المخاطر، بل للسماح أيضا للشركات بالحصول عليها أيضا. إذا كان باستطاعتها نمذجة المخاطر بتلك الطريقة، يمكنها أن تقرر ما ستبقي عليه ضمن ميزانياتها العمومية وما ستنقله إلى المؤمن".
وهذا ليس بالخيال العلمي. فالسيارات ذاتية القيادة هي أحد الأمثلة التي تبين كيف يمكن للاتجاه العام أن يحدث فارقا ضخما في هذه الصناعة. ستتولى شركات صناعة السيارات وشركات تزويد البرمجيات وشركات التأمين جمع البيانات من السيارات ذاتية القيادة واستخدامها في تقييم مدى خطورة تلك المركبات ومقدار التأمين اللازم. السؤال المهم هنا هو: أي المنظمات التي لديها البيانات والقدرة على تحليلها؟ وهذه لن تكون بالضرورة شركات التأمين.
يقول دافان في فيريسك "فجأة، يمكنني الحصول على البيانات المتعلقة بالمخاطر والخاصة بمجموعة من السيارات التي يفوق عددها عدد السيارات التي يمكن أن تحصل عليها أي شركة تأمين منفردة".
وتتوقع "أوتونومس"، وهي شركة وساطة للأسهم، أن تحقق المركبات ذاتية القيادة نجاحا كبيرا جدا في التقليل من عدد الحوادث بحيث تنخفض أقساط التأمين على السيارات في المملكة المتحدة 63 في المائة بين عامي 2015 و2060. والسيارات ذاتية القيادة ليست المثال الوحيد للمجال الذي سيتعرض لأكبر الأثر في عمليات شراء التأمين. إنترنت الأشياء، حيث يجري ربط كل أمور الحياة بشبكة الإنترنت، يعني أن الجميع سيحصل على إمكانية الوصول إلى مزيد من البيانات المتعلقة بنوعية المخاطر التي يواجهها.
وهذه المخاطر تراوح من الأسر التي تراقب إمكانية تسريب أحد الأنابيب، وصولا إلى الشركات التي تحلل شبكات تكنولوجيا المعلومات الخاصة بها. إذا كان بإمكانها التنبؤ بالمشكلات بشكل أفضل وإصلاحها قبل حدوثها، فإنها تستطيع تقليص مقدار التأمين الذي تحتاج إليه.
ميتاس متشكك في المدى الذي يمكن أن يصل إليه ذلك. يقول "لا أعتقد أنه ستكون لدينا خوارزميات تباع للذين يريدون شراء التأمين. أنت بحاجة إلى أناس يفهمون البيانات والخوارزميات. أنت بحاجة إلى مختصين في إنشاء النماذج. الأمر لا يقتصر فقط على البيانات، إنما يدور أيضا حول معرفة كيفية استخدامها".
في جميع الأحوال، يقول المشاركون في الصناعة "إن الذكاء الاصطناعي لن يجعل المخاطر تختفي تماما، وسيظل الناس يريدون دائما حماية أنفسهم ضد الأمور غير المتوقعة. مثلا، الهجوم العالمي الأخير على أجهزة الكمبيوتر، فيروس واناكراي، استطاع أن يعزز الطلب على التأمين الإلكتروني".
يقول تريفور ماينارد، رئيس قسم الابتكار في شركة لويدز "المخاطر المصممة لأغراض خاصة في المجتمع لن تختفي أبدا، على اعتبار أنه يوجد ابتكار دائما في الاقتصاد. تزويد المختصين بتقييم المخاطر بالتكنولوجيا الجديدة يجعل من الممكن أن يكون لهم مستقبل جيد للغاية".
تعتقد "لابيتوس"، وهي شركة أمريكية ناشئة، أن صور "السلفي" يمكن أن تحل مكان كثير من ذلك. ما على العميل سوى إرسال أروع صورة ذاتية عبر البريد الإلكتروني، ومن ثم ترك جهاز الكمبيوتر يتولى بقية المهمة: يمر على الصورة ويحلل آلاف الأجزاء المختلفة من الوجه.
ولا تقتصر عملية البحث على معلومات أساسية عن جنس الشخص فقط، بل أيضا عن قرائن حول مدى سرعة وصول الإنسان إلى سن الشيخوخة، ومؤشر كتلة الجسم وما إذا كان شخصا مدخنا. أجهزة الكمبيوتر التي تتسلح بهذه المعلومات وغيرها التي تحصل عليها من العملاء، تتوصل إلى ما تقول عنه "لابيتوس"، "إنه تنبؤ بمتوسط العمر أكثر دقة بكثير مما تستطيع الأساليب التقليدية التوصل إليه". ولا تستغرق العملية بأكملها سوى دقائق معدودة.
لا عجب في أن صناعة التأمين تشعر بالقلق إزاء تطور التكنولوجيا وإمكانية أن يُحْدث الذكاء الاصطناعي ثورة في الطريقة التي تعمل بها. الأسبوع الماضي حضر نحو 150 من المختصين الشباب في مجال التأمين عرضا في لندن بعنوان "ثورتنا الصناعية: ما الذي تعنيه بالنسبة إلينا"؟
وهم ليسوا الأشخاص الوحيدين الذين يشعرون بالقلق من المستقبل. في الاجتماع السنوي لشركة بيركشاير هاثاواي في نبراسكا هذا الشهر، حذر وارن بافيت من مخاطر التعطيل التي تواجه صناعة التأمين بسبب الذكاء الاصطناعي، المتمثلة في شكل سيارات ذاتية القيادة.
يقول نيك دافان، كبير إداريي المعلومات في شركة فيريسك لتحليل البيانات "حققنا تقدما وتراجعا في مجال الذكاء الاصطناعي على مدى 15 أو 20 عاما، لكنني أعتقد أننا وصلنا إلى نقطة الانقلاب بسبب التطورات في مجال الخوارزميات والتخزين في السحابة، والقوة الحاسوبية".
ويوفر هذا فرصا للصناعة لأن تحقق تحسنا في الطريقة التي تعمل بها، لكن هناك أيضا مخاطر تتعرض لها – لا ينحصر الأمر فقط في استبدال آلات بالمختصين في الصناعة في الوقت الذي تصبح فيه الخوارزميات أكثر قوة. على المدى الطويل، سيكون التحدي الأكبر هو أن الآلات يمكن أن تقوض هذه الصناعة من خلال منح العملاء أدوات أفضل لاتخاذ قرار ما إذا كان التأمين لازما حتى بالنسبة إليهم أم لا.
تحليل البيانات ليس أمرا جديدا في قطاع التأمين، الصناعة التي بنيت على أساس استخدام الإحصائيات لتقييم المخاطر. لكن الذكاء الاصطناعي يعمل على توسيع نطاق وحجم البيانات التي يمكن تحليلها وطريقة استخدامها.
شركات التأمين الناشئة البارعة في أمور التكنولوجيا آخذة في التحليق منذ الآن. ما تراه أمامها هو صناعة ذات طراز قديم، تضخمت بسبب الأرباح الضخمة التي تحققت في الماضي وتشعر بالتهاون إزاء حجم التغيير المطلوب. يستهدف بعضها العمل مع شركات التأمين لتطوير أساليب جديدة، لكن أخرى ترغب في تعطيل الصناعة والحصول على حصة من السوق.
في احتفال جرى أخيرا في "ساحة O2" في لندن، عرضت 11 شركة تأمين ناشئة مدعومة من قبل منظمة اسمها "ستارت أب بوت كامب" Startupbootcamp خططها للمستثمرين والعملاء المحتملين. وكانت تسع منها تستند في خططها إلى بعض أشكال الذكاء الاصطناعي أو تعلم الآلة. وكان من بينها شركة إيروبوتيكس Aerobotics التي تطبق الذكاء الاصطناعي في مجال الصور الجوية للمزارع، للمساعدة في توفير التأمين على المحاصيل. وشركة إميرج Emerge التي تستخدم تعلم الآلة لمساعدة شركات التأمين في تحسين كفاءتها.
يقول هنريك ناوجوكس، الشريك في شركة باين آند كو للاستشارات الإدارية "تظهر الشركات الناشئة ما هو ممكن ويمكن تطبيقه. ويدرس كثير من التنفيذيين الحاليين هذا الأمر - هم لا يفهمون ذلك حقا، لكنهم يرغبون في المشاركة".
ويحرص المستثمرون على الحصول على حصة في ذلك. وفقا لشركة أكسينتشر، كان الذكاء الاصطناعي واحدا من أكثر المواضيع شعبية في قطاع الاستثمار في تكنولوجيا التأمين في عام 2016، ما أدى إلى تجميع أموال تزيد على 500 مليون دولار.
يقول جون كوسانو، الرئيس العالمي لممارسات التأمين في شركة أكسينتشر "بدأت تظهر إلى حيز الوجود فكرة أن يتمكن الذكاء الاصطناعي من أن يكون له تأثير قريب المدى. لا يزال قطاع التأمين تجربة يدوية للغاية".
البدء بالأساسيات
بالنسبة إلى الوقت الراهن كان تأثير الذكاء الاصطناعي في مجال التأمين ضئيلا. يقول نايجل والش، الشريك في شركة ديلويت "إنه بالتأكيد قوة قادرة على التعطيل، لكن بإمكانك أن تعد على أصابعك عدد شركات التأمين التي طبقت ذلك على نطاق واسع".
في الوقت الراهن تقول شركات التأمين "إن الذكاء الاصطناعي أداة تساعدها بدلا من أن يكون مصدر تهديد بالتعطيل. الشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي تركز على الارتقاء بقدراتها على معالجة البيانات، أو تحسين الطريقة التي يتم فيها التواصل مع العملاء من خلال استخدام أساليب المحادثة".
تعمل شركة التأمين "أفيفا" في المملكة المتحدة على تجربة الذكاء الاصطناعي. يقول أندرو بريم، كبير الإداريين الرقميين في الشركة "في أبسط الأمور، نستخدم طبعا الروبوتات والذكاء الاصطناعي. في فرقنا الإدارية، هناك كثير من المهام المتكررة التي يجري تنفيذها حتى الآن من قبل الإنسان. عادة، الخوارزميات أكثر إنتاجية بـ 15 ضعفا".
التعامل مع المطالبات مجال آخر يجتذب كثيرا من الاهتمام. تقول شركات التأمين "إن الذكاء الاصطناعي يمكنه تحسين التعامل مع المطالبات والمساعدة في معرفة حالات الغش والاحتيال". وبدأت شركة فوكوكو اليابانية للتأمين المتبادل على الحياة باستخدام نظام ذكاء اصطناعي طورته شركة "آي بي إم" في قسم المطالبات الخاص بها، في الوقت الذي تتوقع فيه وكالة ماكينزي أن تستغني بعض شركات التأمين الأوروبية بين عامي 2015 و2025 عن ربع موظفيها ـ عندما يتعمق استخدام الأتمتة داخل الشركات.
بريم، من شركة أفيفا، يعترف بأن الإثارة الحقيقية توجد في مجالات أخرى. "المجال المثير للاهتمام هو استخدام البيانات فيما يخص تحسُّن القدرة على توقع المخاطر، مثل استخدام البيانات للتنبؤ بشكل أفضل في المخاطر الطبية. نحن نبحث عن علاقات لا تستطيع الأساليب التقليدية اكتشافها بالضرورة".
هذا هو المجال الذي من المتوقع أن يعمل فيه الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبيرة على إحداث تغييرات واسعة في قطاع التأمين؛ ليس في تسيير المعاملات وخدمة العملاء، بل في المهارات الأساسية، مثل تقييم المخاطر، حيث تقيِّم شركات التأمين – وتسعِّر - المخاطر التي يتعرض لها كل عميل.
يقول هنري بيرتون، الذي يدير "آرتيليجين"، وهي شركة ناشئة تستهدف إدخال الذكاء الاصطناعي إلى مجال التأمين التجاري "المجال الذي نرى فيه أن تعلم الآلة يُحدث تغييرات في الصناعة هو في الطريقة التي يُعِد بها العالم نماذج المخاطر ويفهمها".
استنادا إلى تلك الحجة، ستكون أجهزة الكمبيوتر أفضل بكثير من البشر المختصين بتقييم المخاطر من حيث تحليل الكم الهائل من البيانات التي تظهر كل يوم. يقول بيرتون "من دون شك، سيحل تعلم الآلة مكان النماذج الإحصائية. وكمية البيانات التي تتولد لدينا كل يوم مذهلة. تعمل السيارات ذاتية القيادة على توليد كمية بيانات هائلة تصل إلى أربعة تيرابايت يوميا. والنماذج الإحصائية لا تستطيع التعامل مع ذلك القدر الهائل من البيانات".
العام الماضي أجرت شركة أدميرال للتأمين على السيارات في المملكة المتحدة، تجربة تضمنت استخدام اللغة في منشورات "فيسبوك" لتقديم تنبؤات تتعلق بأسلوب القيادة. مثلا، يمكن للإفراط في استخدام علامات التعجب أن يشير إلى الثقة المفرطة.
لكن "فيسبوك" شعرت بالخوف وتراجعت في اللحظة الأخيرة وتم إلغاء المشروع. مع ذلك "أدميرال" لن تكون آخر شركة تأمين تبحث عن أنماط تنبؤية في أماكن جديدة وغير متوقعة. ويرى مختصون أن أجهزة الكمبيوتر المسلحة بهذه المجموعة الواسعة من البيانات ستكون قادرة، بشكل تفصيلي أكثر بكثير من قبل، على تقييم مدى الخطورة التي تحيط بكل عميل، ومقدار الرسوم التي ينبغي أن تُفرَض عليه.
يقول والش، من "ديلويت"، "الوعد الآتي من الذكاء الاصطناعي مثير إلى حد كبير. في تقييم المخاطر، تصل إلى وضع يمكنك خلاله إنشاء بوالص فريدة خاصة بكل شخص. إنه نمط أعمال مختلف إذا قيّمت المخاطر لكل شخص على حدة".
مهن مهددة
والاتجاهات العامة تكفي لأن تجعل المختصين في تقييم المخاطر من البشر يشعرون بالتوتر. نشرت جامعة أكسفورد دراسة تتعلق بتحديد المهن الأكثر عرضة للأتمتة. ودرست 702 وظيفة، حيث طلبت من مختصي تعلم الآلة والروبوتات أن يحللوا المهام المتضمنة في كل وظيفة. وكانت أعمال تقييم مخاطر التأمين قريبة جدا من أعلى القائمة، مع ظهور أربع مهن فقط اعتُبرت هي الأكثر عرضة للخطر "العاملون في مجال التسويق عن بُعد احتلوا المرتبة الأولى".
ربما ينتهي الأمر بالمختصين في تقييم المخاطر بأن يكونوا في وضع أكثر متانة مما تشير إليه الدراسة. يقول كريستوس ميتاس، نائب الرئيس لتطوير النماذج في مجموعة "آر إم إس" لتحليل البيانات "لم نصل إلى الحد الذي تكون فيه الأتمتة كلية. لم نصل إلى حالة من عدم الإشراف حيث تعمل الخوارزميات من تلقاء نفسها - لا يزال الأمر بحاجة إلى الإشراف".
ويضيف "يحتاج العنصر البشري إلى أن يكون موجودا في المستقبل المنظور. نحن نحتاج إلى تدريب الخوارزمية - ما البيانات التي تزودها بها؟ ما القيود التي يجب أن تتحرك من خلالها؟ كذلك الشفافية مهمة ونحن بحاجة إلى أن نعلم السبب وراء تصرف الخوارزمية بالطريقة التي تعمل بها".
يقول بريان موديسيت، العضو المنتدب في شركة تو سيجما لإدارة الاستثمارات، التي تعمل بالكمبيوتر "في بعض الأسواق، التأمين مفصل أكثر من غيره لأغراض خاصة، بحيث سيكون الذكاء الاصطناعي أكثر قدرة على التمكين. الآلات لن تحل مكان البشر في كل مكان. فبعض الأمور معقدة فوق الحد".
سيكون التنظيم بمنزة عامل أيضا - يتعين على شركات التأمين أن تكون قادرة على تفسير آلية تسعير السياسات لعملائها. وتصر الجهات المنظمة على أن عبارة "الكمبيوتر يقول ذلك" ليست إجابة مقبولة.
ربما يوفر ذلك الراحة لشركات التأمين التي تشعر بالقلق. في الفعالية التي أقيمت الأسبوع الماضي في لندن من قبل الموظفين المهنيين الشباب، كان هناك إجماع في الآراء على أن وظائفهم ستتغير، بدلا من أن تختفي تماما.
الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة إليهم هو خطر أن يأخذ العملاء زمام الأمور بأنفسهم. ومسألة ما إذا كانت الآلات أم البشر هم من يتولى تقييم المخاطر هي مسألة غير ذات صلة إذا قرر العملاء أنهم ليسوا بحاجة إلى المنتج على الإطلاق. ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يفضي إلى تلك النتيجة بالضبط، في الوقت الذي تعمل فيه الشركات على تطوير أدوات خاصة بها لتحليل المخاطر.
يقول بيرتون "سيظهر تأثير ذلك في حجم مبلغ التأمين الذي يدفعه الناس ونوع التأمين الذي يختارونه. نحن نرى أن ذلك فرصة ليس فقط لتمكين شركات التأمين من بناء نماذج تنبؤية ووقائية من المخاطر، بل للسماح أيضا للشركات بالحصول عليها أيضا. إذا كان باستطاعتها نمذجة المخاطر بتلك الطريقة، يمكنها أن تقرر ما ستبقي عليه ضمن ميزانياتها العمومية وما ستنقله إلى المؤمن".
وهذا ليس بالخيال العلمي. فالسيارات ذاتية القيادة هي أحد الأمثلة التي تبين كيف يمكن للاتجاه العام أن يحدث فارقا ضخما في هذه الصناعة. ستتولى شركات صناعة السيارات وشركات تزويد البرمجيات وشركات التأمين جمع البيانات من السيارات ذاتية القيادة واستخدامها في تقييم مدى خطورة تلك المركبات ومقدار التأمين اللازم. السؤال المهم هنا هو: أي المنظمات التي لديها البيانات والقدرة على تحليلها؟ وهذه لن تكون بالضرورة شركات التأمين.
يقول دافان في فيريسك "فجأة، يمكنني الحصول على البيانات المتعلقة بالمخاطر والخاصة بمجموعة من السيارات التي يفوق عددها عدد السيارات التي يمكن أن تحصل عليها أي شركة تأمين منفردة".
وتتوقع "أوتونومس"، وهي شركة وساطة للأسهم، أن تحقق المركبات ذاتية القيادة نجاحا كبيرا جدا في التقليل من عدد الحوادث بحيث تنخفض أقساط التأمين على السيارات في المملكة المتحدة 63 في المائة بين عامي 2015 و2060. والسيارات ذاتية القيادة ليست المثال الوحيد للمجال الذي سيتعرض لأكبر الأثر في عمليات شراء التأمين. إنترنت الأشياء، حيث يجري ربط كل أمور الحياة بشبكة الإنترنت، يعني أن الجميع سيحصل على إمكانية الوصول إلى مزيد من البيانات المتعلقة بنوعية المخاطر التي يواجهها.
وهذه المخاطر تراوح من الأسر التي تراقب إمكانية تسريب أحد الأنابيب، وصولا إلى الشركات التي تحلل شبكات تكنولوجيا المعلومات الخاصة بها. إذا كان بإمكانها التنبؤ بالمشكلات بشكل أفضل وإصلاحها قبل حدوثها، فإنها تستطيع تقليص مقدار التأمين الذي تحتاج إليه.
ميتاس متشكك في المدى الذي يمكن أن يصل إليه ذلك. يقول "لا أعتقد أنه ستكون لدينا خوارزميات تباع للذين يريدون شراء التأمين. أنت بحاجة إلى أناس يفهمون البيانات والخوارزميات. أنت بحاجة إلى مختصين في إنشاء النماذج. الأمر لا يقتصر فقط على البيانات، إنما يدور أيضا حول معرفة كيفية استخدامها".
في جميع الأحوال، يقول المشاركون في الصناعة "إن الذكاء الاصطناعي لن يجعل المخاطر تختفي تماما، وسيظل الناس يريدون دائما حماية أنفسهم ضد الأمور غير المتوقعة. مثلا، الهجوم العالمي الأخير على أجهزة الكمبيوتر، فيروس واناكراي، استطاع أن يعزز الطلب على التأمين الإلكتروني".
يقول تريفور ماينارد، رئيس قسم الابتكار في شركة لويدز "المخاطر المصممة لأغراض خاصة في المجتمع لن تختفي أبدا، على اعتبار أنه يوجد ابتكار دائما في الاقتصاد. تزويد المختصين بتقييم المخاطر بالتكنولوجيا الجديدة يجعل من الممكن أن يكون لهم مستقبل جيد للغاية".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق