الجمعة، 17 مارس 2017

المقال الأول للشيخ محمد عبده فى الأهرام المصرية الأهرام ٢ سبتمبر ١٨٧٦




وردت إليناهذه الرسالة من قلم العالم العلامة والأديب الفهامة الشيخ محمد عبده أحد المجاورين بالأزهر فأدرجناها بحروفها
...............................................................

إلى حضرة الهمام الكامل سليم أفندي محرر جريدة الأهرام

إنه لما نظر لدى كل قاصٍ ودان واشتهر بين نوع الإنسان، أن مملكة مصر كانت في سالف الزمان مملكة من أشهر الممالك، وكعبة يؤمها كل سالك وناسك، إذ كانت قد اختصت بتربية العلوم وبث المعارف المتعلقة بالخصوص والعموم وانفردت بالبراعة، في الصنائع والابتكار في أنواع البدائع، فكان أبناء العالم إذ ذاك ينتدون نداها ويستجدون جداها، يستمطرون من الغيث قطرا ويستمدون من المحيط نهرا. 

فكان التمدن فيها كهلا حين كان عند غيرها طفلا. ولا زالت كذلك حتى زها فيها التمدن وأعجب إذ رأى الطالبين، تنسل إليه من كل حدب. وإن ملكوك الأرض خدام عتبته وتيجان الكيانين تحت قبضته. فاستكبر واعتلا ولكؤؤس الراحة اجتلا. فأقصته إلى ممالك الغرب ، ليذوق مرارة الشغب واللغب، ويتربى بذلك ويتأدب. فبدا بتلك الممالك غريبا ونادى معلما وجد مجيبا، وتناوشته أيدي الجاحدين ، ولفحته أقوال المنكرين. 
ولا زال يحتمل أنواع المتاعب ويقاسي مستعصيات المصاعب، إلى أن بلغ بها أشده، وملك رشده، وبدت آثاره وتلألأت أنواره . وإذ تحلى بحلل الجمال وتتوج بتاج الكمال ، وقضى مدة السياحة وباء بغاية الراحة، استدار الزمان كهيئته ، ورجع الأمر إلى بدايته، وأقل التمدن إلى مسقط رأسه ومقر تربيته.
 فورد ديار مصر ورود الأهل وتمكن بها تمكن الأصلي. فاستقبلته الديار بغاية المسرة، وأكرمت مثواه وأعظمت أمره، واستردت ما كانت فقدت، وأدنت ما كانت أنأت، وأحلته محل القرب، وأنزلته سوداء اللب.
 فقام يؤدي حق خدمتها ويوفي شكر كرامتها. فنظر إلى ما كان أبداه في تلك الأزمان من شواهق البنيان التي كم بلغت الأسباب وحيرت الألباب، وأنبأت بما فيها عن براعة بانيها، ونطقت بفيها أن آيات الكمال فيها .

 فلما أعجب بالمثال حده حادي الكمال لأن ينسج على هذا المنوال ، فأنشأ جريدة الأهرام ، المؤسسة على أحكم قواعد الأحكام الكافلة بإرشاد المسترشدين وتنبيه الغافلين بما فيها من المباني الرقيقة والمعاني الدقيقة والأفكار العالية المؤيدة بالبراهين الشافية القائمة بنشر العلوم بين العموم . 

فيالها من جريدة أسست قواعدها في القلوب، وامتدت مبانيها لكشف الغيوب، تنادي بمقالها وحالها حي على الفلاح وهلموا إلى موارد النجاح . لا تقفوا عند صورة المبنى ولكن تجاوزوا عنه إلى المعنى. تلك أهرام أشباح وهذه غذاء أرواح. تلك ظواهر صور ، وهذه دقائق عبر. تلك مساكن أموات وهذه لسان سر السموات. نعم ..
 أين ذلك الزمان من هذا الآن، الذي سطعت فيه شموس العرفان ونشأ فيه بنو الإنسان نشأة أخرى وتقلبوا في فنون الحقائق بطنا وظهرا، فحقيق أن تكون أيامنا غير أيامهم وأهرامنا غير أهرامهم وأين الذي تفنيه الرياح والأمطار من الذي لا توهنه المدد والإعصار ، فإن مقره العقول العاليات والنفوس الزاكيات التي لا يتناولها الفنا ولا يبددها العنا
 .. فبخٍ بخٍ بمنشيها ، وطوبى لقاريها . فمن الواجب على ذوي الألباب أن يجتنوا جناها وأن يستطلعوا سر معناها ، فيبؤوا بأنوار الحكمة وينقلبوا بفضل من الله ونعمة، فإن ليس شىء لدى العاقل أبهى من حقيقة يكشفها ولا ألذ من حكمة يصادفها. هذا إيجاز في مزاياها ، بسم الله مرساها وجراها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق