الجمعة، 17 مارس 2017

مقالات الشيخ محمد عبده الخمسة في الأهرام




استدار الزمان كهيئته‏,‏ ورجع الأمر الي بدايته‏,‏ وقفل التمدن الي مسقط رأسه ومقر تربيته‏,‏ فورد ديار مصر ورود الأهلي‏,‏ وتمكن بها تمكن الأصلي‏,‏ فاستقبلته الديار بغاية المسرة‏
, وأكرمت مثواه وأعظمت أمره, واستردت ما كانت فقدت, وأدنت ما كانت أنأت, وأحلته محل القرب, وأنزلته سوداء اللب, فقام يؤدي حق خدمتها, ويوفي شكر كرامتها, فنظر الي ما كان أبداه في تلك الأزمان, من شاهق البنيان, فأنشأ لنا جريدة الأهرام المؤسسة علي أحكم قواعد الأحكام, الكافلة بارشاد المسترشدين, وتنبيه الغافلين, بما فيها من المباني الرقيقة, والمعاني الدقيقة, والأفكار العالية, المؤيدة بالبراهين الشافية, القائمة بنشر العلوم, بين العموم, فيالها من جريدة أسست قواعدها في القلوب, وامتدت مبانيها لكشف الغيوب, تنادي بمقالها وحالها: حي علي الفلاح, وهلموا الي موارد النجاح.
هذه الكلمات من المقالة الأولي التي أرسلها الأستاذ محمد عبده الي الأستاذ سليم تقلا محرر جريدة الأهرام لتنشر في العد الخامس لها في الثاني من سبتمبر.1876 عندما صدر العدد الأول منها في5 أغسطس1876, دعت الجريدة, والتي كانت أسبوعية في بدايتها: أصحاب الأقلام البليغة أن يزينوا من وقت لآخر الجريدة بما يسطرونه من بديع الكتابة والحكم والفوائد التي يلتزم باقتنائها كل ذي ذوق سليم. استجاب الامام محمد عبدة لتلك الدعوة, وأرسل للاهرام سلسلة مقالاته. لم تكن هذه المقالات سياسية, لأن الأهرام ذكرت في بدايتها أنها ستكون بعيدة عن الأمور السياسية, انما كانت أدبية وفلسفية واصلاحية, مثلما سنري, وهي تعكس جانبا مهما من جوانب ومواهب الأستاذ الامام, وتدل علي قدراته الفائقة.
قدم المحرر المقالة الأولي كاتبا: وردت الينا هذه الرسالة من قلم العلامة والأديب الفهامة الشيخ محمد عبده أحد المجاورين بالأزهر فأدرجناها بحروفها.
كانت هذه المقالة ضمن خمس مقالات نشرتها له الأهرام تباعا, كما ورد في كتاب تاريخ الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده, السيد محمد رشيد رضا, مطبعة المنار,3 أجزاء.1931
كانت مقالات الأهرام تلك باكورة المقالات الأدبية للامام, وأعماله الأولي النادرة. سجل الأستاذ محمد رشيد رضا ذلك في كتابه: ما كتبه في عهد طلبه للعلم بمصر وهو أول عهده بالانشاء الذي عرف به في عالم الصحف وعندنا منه ما نشر في أعداد متفرقة في السنة الأولي لجريدة الأهرام الأسبوعية في العدد الخامس الي العدد41, وهي السنة التي نال فيها شهادة العالمية من الأزهر.
يستمر الأستاذ الامام في مقالته الأولي في وصف جريدة الأهرام, ويقارنها بالأهرام فيقول:.. تلك أهرام أشباح, وهذه غذاء أرواح, تلك ظواهر صور, وهذه دقائق عبر, تلك مساكن أموات, وهذه لسان سر السموات, نعم أين ذلك الزمان, من هذا الآن, الذي قد سطعت فيه شموس العرفان, ونشأ فيه بنو الانسان نشأة أخري, وتقلب في فنون الحقائق بطنا وظهرا, فحقيق أن تكون أيامنا غير أيامهم, وأهرامنا غير أهرامهم...وطوبي لقاريها, فمن الواجب علي ذوي الألباب أن يجتنوا جناها, وأن يستطلعوا سر معناها, فيبوؤا بأنوار الحكمة, وينقلبوا بفضل من الله ونعمة. فانه ليس شيء لدي العاقل أبهي من حقيقة يكشفها, ولا ألذ من حكمة يصادفها, هذا ايجاز في مزاياها, بسم الله مجراها ومرساها.
نشرت المقالة الثانية للامام في العدد الثامن من الأهرام, وعلق عليها المحرر: وردت الينا هذه الرسالة من قلم العالم العلامة الأديب الشيخ محمد عبده أحد المجاورين بالأزهر وموضوعها في أن فن القلم والكتابة من اللوازم الضرورية ليس للعالم عنها مندوحة في تعيشهم الحقيقي.
كانت المقالة بعنوان الكتابة والقلم, وكانت كسابقتها قطعة أدبية رائعة, تدل علي براعة وتمكن الامام من اللغة العربية وفن النثر والانشاء, اضافة الي عمق فلسفي لم تحتوه المقالة الأولي, والمام بالحضارة الانسانية وتاريخ المعرفة, وفهم عميق لأسباب التقدم. كانت مقالة طويلة تشغل جزءا كبيرا من الجريدة التي كانت تصدر في أربع صفحات فقط حينها. بدأها الأستاذ بقوله: ان مما انبسطت به أيدي الضرورات, وأنتجته مقدمات الحاجات, انشاء لسان القلم, نائبا عن المتكلم فيما يتكلم. وشرح بعدها الضرورات والاحتياجات اللازمة للانسان من مطعم ومشرب وملبس ومسكن, وأن الانسان أنشأ لتحقيق ذلك الصنائع المختلفة وآلاتها ومختلف الآلات البدنية والاختراعات التي يقوم بها أرباب الفكرة الوقادة والفطنة النقادة حتي وصل الي استنتاجه: ثم لما شيدت مباني العرفان, وانتشرت المعارف بين بني الانسان, وغصت الأرض بالعلوم, وسيرت فيها تيسير النجوم, صعب عليهم الحفظ بالتصوير, وألتبس الأمر علي السميع البصير, فألجئوا بالاضطرار الي حفظ ذلك بالأرقام العلمية, والحاكية عن الحروف اللفظية, القابلة في الرسم للتأليفات الغير المتناهية بدون أدني التباس بين أشكالهاكما لا يحصل الالتباس بين الألفاظ عند تأديتها, فكان القلم لسانا آخر للمتكلم, الا أن ما نطق به اللسان الحقيقي عرض سيال, وما نطق به القلم جوهر لا يزال, فلصاحبه عند الذهول أن يرجع اليه, ولغيره من أهل لسانه أن يعول عليه فسهل عليهم بذلك حفظ آثارهم وبث أفكارهم.
ثم يستمر في توضيح تعظيم دور القلم مع التقدم العلمي والانسانية دوره في الاصلاح وحفظ المعاهدات بين الناس وظهور البريد وتقدم وسائل التواصل بين الناس حتي يصل بنا الي شرح هدفه: ومن أجل آثار القلم, اذ يعد من أعظم النعم, ومن اللوازم ألزم, الجرائد( والجرنالات) التي هي أمل عظيم لترقي الملل, وانتظام أمور الدول.
يتطرق بعدها الي الجرنالات فيصفها بأنها سر السياسة, وأن مثل صاحب الجورنال مثل خطيب قام علي منبر العالم وأمسك بيده صور اسرافيل, ونادي بالحقير والجليل, فنفخة تحيي ونفخة تميت, وعظة تصيب وأخري تفيت. فمن الواجب علي كل ذي دراية, أن يكون له بمطالعة هذه الصحائف غاية, ليكون علي بصيرة في أمره, ومصيبا في سيره, نائلا لخيره, حذرا من شره, متحركا نحو المعاني, ويقف علي خفيات الحقائق, ورقائق الدقائق, ويخرج الي فضاء المعرفة, ويطلق من غل الجهالة والسفه. كل هذا يحققه مداد القلم.. فاقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم.
كانت المقالة الثالثة بعنوان المدبر الانساني والمدبر العقلي والروحاني, تم نشرها في العدد11 من الأهرام الصادر في30 ديسمبر1876, وقدمها المحرر: وردت الينا هذه الرسالة من قلم جناب العالم العلامة الشيخ محمد عبده أحد أهل العلم بالجامع الأزهر. كانت كسابقتها مقالة طويلة, رائعة الأسلوب عميقة المعاني تدعو الي التأمل والتفكر, ملئت حكمة ووعيا, وشغلت جانبا كبيرا من مساحة الجريدة. شرح فيها الأستاذ الطبيعة البشرية, وأنها تشمل جانبين أسماهما مدبرين: الحقيقة الانسانية تشمل مدبرين عظيمين, أحدهما المدبر الحيواني مع ما يستتبعه من جميع الاحساسات الظاهرة والباطنة, والآخر هو المدبر العقلي الروحاني الكلي. ولكل واحد منهما غاية يطلبها وحدود في سيره لا يجاوزها..فالمدبر الحيواني ليس له من غاية سوي حفظ تركيب الحيوان الي حد معلوم, والي زمن مخصوص, فهو منوط باللوازم الكافلة لهذا الغرض من جلب ما تقوم به البنية, ودفع ما فيه مضرة أو لها عنه غنية, علي قدر الامكان, حتي يتقوم هذا المزاج سالما مدة من الزمان, وذلك أيضا هو حال سائر الحيوانات العجم.
أما المدبر العقلي فهو من حيث هو ليس له من غاية سوي كشف المعمي, وان بعد المرمي, علي وجه لا يلحقه فيه الريب, ولا يتطرق اليه أدني عيب, والتحلي بالملكات الفاضلة, والتنزه عن الصفات غير الكاملة, وذلك بأن يأخذ بالقسط, ويقف علي الحد الأوسط, فيما يجب أن يقع من تصرفاته مع أغياره أو في حد ذاته, وأن يفيض علي الغير مما استفاد, أو أن يضع النجاح ويرفع الفساد, ويقرر قواعد الوفاق, ويقلع أساس التفرق والشقاق, وكل ذلك علي مقدار قوته, وما يملكه من مكنته. فهو السابح في بيداء الوجود ليميز الواقع من المفقود, ويقف علي أصول الكون, وما نشأ عنها لونا بعد لون, ويكشف عن وجوه الأسرار براقع الآثار. فلا يدع مدينة الا قرع بابها, وطعم طعمها واستقي شرابها, ولا حسناء الا كشف نقابها, ورشف رضابها, ولا عميقا الا وقف علي قراره, ولا مرتفعا الا أتي عليه بمعياره, وعلي هذا المنوال حتي يصبح وقد استغني عن العالم بصدره, واكتفي عن مخبريه بخبره, وأضحي خلقا جديدا, وعلي كل شيء بذاته شهيدا, وانطوت في وحدته الكائنات, واتحدت في ذاته المختلفات, فحينئذ يضع موازينه, ليحكم قوانينه, فقد عرف النافق من الكاسد, وميز الصحيح من الفاسد, فيأخذ بما استطاب, ويدع ما منه استراب, فلا يدع شاردة من الفضائل الا اقتنصها, ولا ناشزا من المكارم الا قص قصصها, ولا دفينا من المحاسن الا أبرزه, ولا خليطا الا أماط عنه ما يشوبه وأفرزه, ولا نقيصة الا أولاها النفار, وولاها الأدبار, فلا يدنيه ميله من السفاسف, ولا يقصيه عزمه عن المعالي وان دونها القواصف, فلا يكلف ثقل العار, ولا يستنكف الأخذ بالثأر, واذا دعت اليه داعية الحق, وان جل الخطب واتسع الخرق, وحينئذ يستميح مسامع أمثاله, ليمدهم من نواله, ويغرس فيهم أشجار النجاح, ليجتنوا منها ثمار الفلاح, ويجنبهم ريبة الاختلال, ويضع لهم ما يعبرون به عليه في لجج الاشكال, وهذه هي الآثار التي امتاز بها الانسان علي سائر الحيوانات, فلا ريب كان المدبر العقلي هو الانسان بالحقيقة. ثم يستطرد الاستاذ في شرحه وسرده في شرح أدوار الحواس وعلاقتها بما أرشدته اليه من وسائل البحث عن أسرار الكون, ويقارن بين أحوال الذين بذلوا أرواحهم في طلب الكمالات العقلية, والذين بذلوها في طلب الشهوات والرغائب, ويخلص بقوله: لاجرم أن ينقسم الانسان الي قسمين: قسم أخلد الي ارض الحيوانية فغايته غاياتها يقوم بدنه مدة ثم ينفلت من الحياه لا يبقي له أثر, ولايسمع له خبر, وقسم قد ارتقي الي ذروة الانسانية فنهج المنهج العقلي. فكلما قوي في فطرة الشخص جانب الانسانية, كان ميله نحو التصرفات العقلية, يأنف الظلم, ولا يجازف في الحكم, ولا ينتحي نحو الغدر, ولا يحتمل صدمات القهر لغير الحق, بل تركض خيله في أرض العدالة, لرفع آثار الجهالة, ودفع معرة النذالة, يأخذ بالبرهان, ولا ينكص اذا استحكم البيان. ومن ثم تري أن أهل قارة أوروبا لما ارتقت اليهم المعارف الي ذراها, وبلغت فيهم الكمالات قصاراها, وألقت الرياسة اليهم زمامها, وفوضت السياسة اليهم أحكامها, وأصبح نور العقل في أحيائهم يتلألأ, وسنا الفضل في أقطارهم يتعالي, تسابقت همهم الي بث مقتضيات الانسانية, في نواحي الكرة الأرضية.
وكانت المقالة الرابعة بعنوان: العلوم الكلامية والدعوة الي العلوم العصرية, قد نشرت في العدد36 من الأهرام, قدمها المحرر: وردت الينا هذه الرسالة من قلم جناب العلامة الأديب الفاضل الأريب الشيخ محمد عبده أحد أهل العلم بالجامع الأزهر.
هذه مقالة اصلاحية هامة, بدأها الأستاذ بقوله: كلما تناسينا عهد جاهلية العرب, وما كان من مقتضيات الجهالة في تلك الحقب, ومنينا أنفسنا بأننا صرنا في نشأة أخري, وتقدمنا الي الأمام بعد أن كنا الي القهقري, واستصبحنا بمصباح الآمال, في ليل الضلالة والاختلال, وهمت أفكارنا, بتحصيل ما سبقنا به غيرنا, تذكرنا حوادث الأيام بأننا لا زلنا في أول نقطة من ذلك الزمن الأول, بل كان ذلك علي تنزل منه الي أسفل, وتنثني آمالنا, عن تقدم أهالي أوطاننا. فمن أعجب ما رأيناه في هذه الأيام, أن طالبا من طلاب العلم الكرام... أخذ في دراسة بعض الكتب المنطقية والكلامية, التي كان قد صنفها بعض أفاضل الأمة الاسلامية. فهذا علم حقيقي بأن يتخذ سلما لكل العلوم, ولا يعدل عن طلبه الا جهول ظلوم, والعلوم الكلامية, انما هي أحكام لتأييد القواعد الدينية, بالأدلة القطعية. يستمر الأستاذ في السرد ليصل الي أنه عندما سمع بعض الأصفياء والأقرباء والأحباء بذلك نصحوه بالتخلي عن متابعة تلك الأفكار, والتي وصفوها بأنها علوم الشبهة والضلال, مما سبب له اضطرابا كبيرا, وأعرض عن الاستمرار. يعجب الامام لذلك الأمر ولتلك المسالك, ويكرس المقال كله للحث علي دراسة المنطق والعلوم الحديثة, يختم مقالته بقوله: أليس من البين أنه لا دين الا بدولة, ولا دولة الا بصولة, ولا صولة الا بقوة, ولا قوة الا بثروة. وليس للدولة تجارة وصناعة, وانما ثروتها بثروة أهاليها, ولا تمكن ثروة الأهالي الا بنشر العلوم فيما بينهم حتي يتبينوا طرق الاكتساب.
نشرت المقالة الخامسة في العدد الحادي والأربعين بعنوان: التحفة الأدبية, وهي مراجعة لكتاب التحفة الأدبية في تاريخ تمدن الممالك الأورباوية, تأليف الوزير والعالم كيزو والذي ترجمه الي العربية الخواجا حنين نعمة الله خوري والمطبوع في الاسكندرية في مطبعة الأهرام سنة.1877 بدأ الامام مراجعته بقوله إن اللغة العربية الجميلة قد سلبت من الحلي والزينة, وبدأ أمرها بعد التمام في النقصان, وسلبت تلك اللغة الشريفة من ما كان لها من الحلي والزينة, وأمست للصغار والابتذال رهينة. حدث ذلك في الوقت أن الأمم الأخري تقدمت واكتسبت المزايا التي كانت لتلك الأمة, فتقدمت, وعمها الرخاء. ثم بدأ في الشرح والتعليق والنقد للكتاب ولخصه بقوله: جمع فيه كيزو من نتائج السياسات, ما تحار فيه ألباب أرباب الرياسات, حقيق بأن يسمي سبيل النجاه, ومادة الحياه.
اختتم السيد محمد رشيد رضا مقالات الامام المنشورة بالأهرام بتعليقه: هذا آخر ما رأينا للأستاذ الامام من المقالات في السنة الأولي من جريدة الأهرام وكان لا يزال مجاورا في الأزهر لم يصر مدرسا رسميا وهي تدل علي أنه أوتي من كمال العقل وسداد الرأي في بدايته مالا يزال كبار علمائنا وعظماء رجالنا قاصرين عن ادراكه, ولو عمل أهل هذه البلاد بارشاده منذ أن تصدي للاصلاح ونشر آرائه في الصحف لكانت مصر الآن من أعظم الأمم علما وحضارة واستقلالا وقوة.. وقد صرح هو بأنه لا يرجو أن يعيش الي أن يري ثمرة عمله, وأنه ليس الا معدا وممهدا لمصلح يأتي من بعده

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق