الأربعاء 17 جمادي الثاني 1438هـ - 15 مارس 2017م
أقدار البشر مثل ارتطام كرات البلياردو، وكذلك هي أحداث التاريخ. في 16 أبريل 1746 جرت معركة كالودين في اسكتلندا لتقرر مصير التاج البريطاني لمن يكون. فقد سحق الجيش البريطاني عائلة «ستيوارت» حين هُزِم جيش الأمير «تشارلز إدوارد ستيوارت»، لتحتفظ عائلة جورج الثاني بالعرش البريطاني إلى الآن، ولترسم قدر أوروبا ومصائر القوى العظمى في القارة. وفي كتاب صدر حديثاً عن جامعة أوكسفورد، يعتقد المؤرخ الاسكتلندي «موري بيتوك» أنه لو قيض الانتصار للأمير الاسكتلندي، وتربع على العرش الإنجليزي، فإن مسار التاريخ كان قد أخذ بعداً مختلفاً، فلا الثورة الفرنسية اندلعت، ولا حرب السنوات السبع اشتعلت، ولا الاستقلال الأميركي حدث، ولكانت أميركا اليوم تتحدث الفرنسية، ولبقيت كندا في يد فرنسا.
هذا التحليل يشاطره فيها مؤرخ عسكري إيطالي هو «شيرو باوليتي»، والذي يتحدث هو أيضاً عن الأثر الحاسم لهذه المعركة في مجريات التاريخ الحديث.
ولفهم ما حدث في الأرض الاسكتلندية، علينا الرجوع إلى الخلف لدراسة الأرض السياسية لأوروبا وعلاقات القوى. فقد كانت فرنسا على عداء دائم مع بريطانيا (عائلة جورج الممتدة بنسبها إلى هانوفر في ألمانيا). التاج البريطاني يمد «ماري تريزا» بالمال مدراراً، وهي حاكمة «آل هابسبورج» المعادية للنمسا، بينما تقوم بريطانيا بفرض المزيد من الضرائب على مستعمراتها الأميركية، لمد «آل هبسبورج» بالمال والرجال. كل هذا يقود إلى مزيد من النفقات على كل من التاج البريطاني وعائلة «آل بوربون» الحاكمة في فرنسا. تتفجر حرب الوراثة لسبع سنين، تدخل خلالها على الخط كلٌّ من روسيا وبروسيا والنمسا وفرنسا وبريطانيا.
وحسب تحليل «بيتوك» و«باوليتيه»، فإن مجريات الأمور كانت ستسير باتجاه مختلف لو رسا مصير التاج البريطاني بيد عائلة «ستيوارت». كان تدفق صنبور المال والرجال إلى «آل هابسبورج» قد جف، وكانت بريطانيا أراحت الأميركيين في المستعمرات، وكانت فرنسا تتمدد براحة في كندا، وكان العرش الفرنسي في علاقة ممتازة مع عائلة «ستيوارت» في بريطانيا، فالكل يدينون بالمذهب الكاثوليكي.
والآن ما النتائج الفظيعة لهزيمة عائلة «ستيوارت» في معركة كالودين؟ اندلعت حرب السنوات السبع، وانفجرت الثورة الفرنسية بعد ثلاث وأربعين عاماً (1789) بسبب فداحة الأعباء المالية وإرهاق العباد، ومن استنزاف المستعمرات البريطانية في أميركا عن طريق الضرائب انطلقت حرب الاستقلال عن العرش البريطاني، والتي تكللت عام 1776 بالاستقلال الأميركي. أما في كندا فقد انكمشت اللغة الفرنسية إلى مقاطعة كيبك.
أذكر من كتاب «جون داهموس» الذي نشرته سلسلة الألف كتاب في مصر عن سبع معارك غيرت وجه التاريخ، مثل معركة سهل أنقرة عام 1402، والتي أوقفت الزحف العثماني إلى أوروبا، ومعركة اليرموك التي غيرت مصير الشرق الأوسط، ومعركة جواجاميلا التي أنهى فيها الإسكندر دولة الأخمينيين.
ومنه نفهم عمق العبارة التي يقولها الفيلسوف «هيروقليطس» من أن الحرب هي أم التاريخ، إذ دفعت بشعوب إلى العبودية وبأخرى إلى الحرية، ما يجعلنا أيضاً نفهم سر انتفاضات الشعوب على مر التاريخ. ولماذا تدفقت عبقرية اليونان بعد دحرها كزركسيس في معركة سلاميس.
ومن أعجب ما قرأت لمالك بن نبي عن معركة سهل أنقرة، أن فيها فائدة مهمة في نجاة الجنين الأوروبي الذي سيفيض لاحقاً بالعبقريات، ولو أن العثمانيين أدخلوا أوروبا إلى الإسلام لكانت نهاية أوروبا مثل نهاية أي حضارة تحتضر ولاحتاج العالم ربما إلى ألف عام أخرى حتى يدخل مرحلة التنوير، فالليل الذي كان يرخي سدوله على العالم الإسلامي لم تكن لأي قوة أن ترفعه، وبذلك نجت أوروبا من الحكم العثماني لتخرج عبقريات من أمثال ديكارت واسبينوزا وبيكون. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق