المصدر موقع مركز الدراسات القانونية التخصصي د ناصر بن زيد بن ناصر بن داود
التقادم بالقانون السعودي
التقادم المقصود هو مضى مدة معينة من الزمن على صدور الحكم بالإدانة دون أن يتم تنفيذ العقوبة المقضى بها فيمتنع بعد هذه الفترة تنفيذ العقوبة([1]).
والتقادم كسبب من أسباب سقوط الجريمة والعقوبة أمر مختلف عليه ومحل جدل وخلاف فقهى، سواء فى كونه من الأصل سبباً لسقوط الجريمة والعقوبة أو فى وضعه فى موضعه بين باقى أسباب سقوط الجريمة والعقوبة. وسوف نتعرض لذلك فى المباحث التالية:-
المبحث الأول : تقـــــادم الجريمة
اختلف الفقهاء فى تقادم الجريمة وفرقوا فيه بين الشهادة على الجريمة أو الإقرار بها وذلك إلى أربعة مذاهب هى:([2]).
المذهب الأول : مذهب الإمام أبى حنيفة وأبى يوسف حيث أنهما يريا رد الشهادة بالجريمة القديمة وقبول الإقرار بها فيما سوى حد شرب الخمر.
ويستند أبو حنيفة فى ذلك إلى أن الشهادة بعد التقادم شهادة متهم،وشهادة المتهم مردودة لعدة أسباب أهمها:
( أ ) قول الرسول صلى عليه وسلم "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين أى متهم" وقد ذكر محمد عن عمر رضى الله عنه أنه قال" أيما شهود شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته، فإنما شهدوا عن ضغن فلا شهادة لهم". ويؤكد الأحناف أنه لم ينقل أن أحداً من الصحابة أنكر على عمر هذا القول فيكون إجماعاً ومن المستفاد من قول عمر أن الشهادة المتأخرة تورث التهمة ولا شهادة لمتهم على لسان رسول الله عليه وسلم حيث يقول" لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين" أى متهم.
( ب ) ـ لان الشاهد بسبب الحد مأمور بأحد أمرين:
أولهمــا بالستر إعمالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم" من ستر على مسلم ستره الله فى الدنيا والآخرة". وثانيهما بالشهادة به احتسابا لقصد إخلاء العالم من الفساد للردع المقـرر بالعقوبة إضافة إلى إعمال قوله تعالى" وأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ " ([3]).
وعلى ذلك وحيث أن الأمرين هو واجب مخير على القول لأن كلاً من الستر وردع الجانى وإخلاء العالم من الفساد لا يتصور فيه التأجيل والتسويف والتراخى.
فإذا شهد بعد التقادم لزمه الحكم عليه بأحد الأمرين، إما الفسق وإما تهمة العداوة لأنه إن حمل على إنه من الأصل اختيار الأداء وعدم الستر ثم أخره لزم الأول أى الفسق. أو على أنه أختار الستر ثم شهد لزمه الثانى أى العداوة. وذلك أنه سقط عنه الواجب بأن أختار أحدهما وعليه فإن انصرافه بعد ذلك إلى الشهادة موضع ظن إنه حركة حدوث عداوة.
وهذا ما لا يتحقق بالإقرار بالزنا والسرقة، فالفسق ظاهر، ومعاداة الغير غير موجودة إذ لا يعادى الإنسان نفسه فلا يبطل بالتقادم. فإن قيل: لو كان اشتراط الدعوى مانعاً من الرد بالتقادم لزم فى السرقة أن لا ترد الشهادة بها عند التقادم لاشتراط الدعوى فيها، لكنه يجاب:
( 1 ) ـ بأن السرقة فيها الأمران، الحد والمال أى العقوبة والضمان فما يرجع إلى الحد، لا تشترط فيه الدعوى لأنه خالص حق الله تعالى، وبالنسبة لاعتبار المال أى الضمان فإنه تشترط فيه الدعوى. والشهادة بالسرقة لا تخلص لأحدهما بل لا تنفك عن الأمرين فاشترطت الدعوى. للزوم المال لا للزوم الحد، ولذا يثبت المال بها بعد التقادم لأنه لا يبطل به ولا نقطعه، لأن الحد يبطل به ويدل على تحقق الأمرين فيها، أنه إذا شهدوا بها على إنسان والمدعى غائب وهو صاحب المال يحبس المشهود عليه حتى يحضر المدعى لما فيه من حق الله، وفى القذف لا يحبس المشهود عليه حتى يحضر المدعى كما فى حقوق العباد الخالصة.
( 2 ) ـ إن بطلان الشهادة بالتقادم لما كان للتهمة فى حقوق الله سبحانه أقيم التقادم فى حقوق الله مقامها. فلا ينظر بعد ذلك إلى وجود التهمة وعدمها كالرخصة لما كانت للشقة وهى غير منضبطة أدير الفطر على السفر فلم يلحظ بعد ذلك وجودها ولا عدمها فترد الشهادة بالتقادم. ولا يخفى أن رد الشهادة بالتقادم ليس إلا للتهمة ومحل التهمة ظاهر يدركه كل واحد فلا يحتاج إلى إناطته بمجرد كونه حقاً لله تعالى، ولا يصح تشبيهه بالشقة مع السفر لأن المشقة أمر خفى غير منضبط فلا تمكن الإناطة به فنيط بما هو منضبط فالعدول للحاجة للانضباط ولا حاجة فيما نحن فيه.
فإن قلت فظاهر انتقاء التهمة مع رد الشهادة فى حق الحد فيما لو علم المدعى بالسرقة فلم يدع إلا بعد حين فشهدوا فانه لا تهمة بتأخيرهم ومع هذا لا يقطع بل يضمن المال.
فالجواب أن ما كان فيه تهمة فالمرد يضاف إليها. ومالم يكن فإلى المدعى على ما قال قاضيخان. إنما لا تقبل فى السرقة بعد التقادم لا لتهمة فى الشهود لأن الدعوى شرط القبول بل لخلل فى الدعوى فإن صاحب المال كان مخيراً فى الابتداء فإذا تأخر فقد اختار الستر فلم يبق له حق فى دعوى السرقة والحد بل يبقى له حق دعوى المال فقط فيقضى بالمال دون القطع كما لو شهد رجل وإمراتان على السرقة يقضى بالمال دون القطع([4]).
ولذلك يسأل الإمام الشهود عن زمان السرقة لاحتمال التقادم وعند التقادم إذا شهدوا بالسرقة يضمن المال ولا يقطع([5]).
المذهب الثانى: وهو قول محمد بن الحسن برد الشهادة فى الجريمة القديمة وقبول الإقرار بها حتى بالشرب القديم.
حيث يرى محمد ين الحسن أن التقادم يقدر بمضى الزمان وان كان ذلك بالشهادة كما فى الزنا وغيره من الحدود وان أقر يصح مطلقاً ولا يبطل بالتقادم اعتباراً بما ذكرنا من الحدود وهذا لأن التأخير يتحقق بمضى الزمان والرائحة قد تكون من غيره([6]).
وقد ورد فى الجامع الصغير:
قال أبو حنيفة: رجل شهد عليه الشهود بسرقة أو بشرب خمر أو زنا بعد حين لم يؤخذ به وضمن السرقة وان أقر بذلك أخذ به إلا فى شرب الخمر فإن لا يؤخذ به إلا أن يقروا ريحها يوجد منه أو جاءوا به سكران. وهو قول أبى يوسف. وقال محمد: يؤخذ بإقراره فى الخمر أيضاً([7]).
المذهب الثالث: وهو قول مالك والشافعى وأحمد وتخلص هذه فى أن العقوبة لا تسقط مهما مضى عليها الزمن دون محاكمة وذلك ما لم تكن العقوبة من عقوبات التعازير وما لم تكن الجريمة من جرائم التعازير فان الجريمة أو العقوبة تسقط بالتقادم إذا رأى ذلك أولو الأمر تحقيقاً لمصلحة عامة.
وأساس هذه النظرية يستند إلى أن قواعد الشريعة ونصوصها ليس بها ما يدل على أن عقوبات الحدود والقصاص والدية تسقط بمضى مدة معينة إضافة إلى أن ولى الأمر ليس له حق العفو عن هذه العقوبات ولا إسقاطها حال وجودها بأى حال من الأحوال. وعلى ذلك وإذا لم يكن هناك نص يجيز إسقاط العقوبة ولم يكن لولى الأمر إسقاطها فقد وجب الامتناع عن القول بالتقادم.
أما فى مجال التعازير فإن تطبيق القواعد العامة يقتضى القول بجواز سقوط العقوبة بالتقادم إذا رأى ولى الأمر ذلك تحقيقاً لمصلحة عامة لأن لولى الأمر حق العفو عن الجريمة وحق العفو عن العقوبة فى الجرائم التعزيزية. وعلى ذلك وحيث أن لولى الأمر الحق فى العفو عن العقوبة فيسقطها حالاً فإن له الحق أيضاً فى تعليق سقوطها على مضى مدة معينة إن رأى المصلحة العامة فى ذلك.
ولذلك فإن مالك وأحمد والشافعى يرون قبول الشهادة والإقرار فى الجريمة القديمة وذلك لأن الشهادة والإقرار حجتان شرعيتان يثبت بكل منهما الحد فكما لا يبطل الإقرار بالتقادم لا تبطل الشهادة به.
وقد جاء فى المحلى([8]): عن ابن وهب قال: بلغنى عن ربيعة أنه قال فى رجل زنى فى صباه وأطلع على ذلك رهط عدول فلم يرفعوا أمره وأتى على ذلك بالبينة وأعترف فإنه يرجم، لا يضع الحد عن أهله طول زمان.
وقد جاء بالمدونة الكبرى للأمام مالك ([9]).
قلــت: أريت إن تقادمت السرقة فشهدوا عليه بعد حين من الزمان أيقطع فى قول مالك أم لا: قال: نعم عند مالك وإن تقادم.
قلــت: وكذلك الحدود كلها شرب الخمر والزنا: قال: نعم لا يبطل الحد فى شئ مما ذكرت لك وان تقادم ذلك وطال زمانه أو تاب السارق وحسنت حاله وهذا الذى سمعت هو رأيى.
قلــت: أرأيت إن شرب الخمر وهو شارب فى شبيبته ثم تاب وحسنت حاله وصار فقهياً من الفقهاء عابداً فشهدوا عليه أيحد أم لا ؟ فى قول مالك قال نعم يحد.
ومن الذى جاء بكشف القناع على متن الإقناع([10]).
"وإن شهدوا بزنا قديم أو أقر الزانى بزنا قديم وجب الحد لعموم الآية وكسائر الحقوق".
وقد جاء فى أسنى الطالب فى شرح روض الطالب ([11]).
ولا يشترط حياة الشهود ولا حضورهم مما فهم الأولى حالة الحكم ولا قرب عهد الزنا فتقبل الشهادة به وان تطاول الزمان.
المذهب الرابع: وهو قول ابن أبى ليلى:
وهو رد الشهادة والإقرار فى الجريمة القديمة بمضي المدة. وهو قول زُفّر.
وقد جاء فى المبسوط([12]): وإذا شهد الشهود على زنا قديم لم أحد بشهادتهم المشهود عليه ولم أحدهم أيضاً لأن عددهم متكامل والأهلية للشهادة موجودة وذلك يمنع أن يكون كلامهم قذفاً.
وإن أقر بزنا قديم أربع مرات أقيم عليه الحد عندنا. وقال زفر رحمه الله تعالى: لا يقام اعتبارا لحجة البينة فإن الشهود كما ندبوا إلى الستر فالمرتكب للفاحشة أيضاً مندوب إلى الستر على نفسه، قال صلى الله عليه وسلم "من أصاب من هذه القـاذورات شيئاً فليستتر يستر الله" ولكنا نستدل بآخر الحديث حيـث قال: ومن أبدى لنا صفحته تقادم العهد والمعنى فيه أن التهمة تنتقى عن إقراره حينئذ فإن الإنسان لا يعادى نفسه على وجه يحمله ذلك على هتك ستره بل إنما يحمله على ذلك الندم وإيثار عقوبة الدنيا على الآخرة بخلاف الشهادة. فيتقادم العهد هناك تتمكن التهمة من حيث أن العداوة حملتهم على أداء الشهادة بعد ما اختاروا الستر عليه وهنا كان إصراره يمنعه عن الإقرار ثم الندم والتوبة حملاه على الإقرار بعد تقادم العهد.
المبحث الثانى : تقــــادم العقوبة
أولاً: يرى الأحناف أن التقادم يؤثر فى تنفيذ العقوبة المقضى بها وذلك على أساس أن التقادم كما يمنع قبول الشهادة فى الابتداء يمنع الإقامة بعد القضاء وذلك خلافاً لرأى زفر. حتى لو هرب المحكوم عليه بعدما ضرب بعض الحد ثم أخذ بعدما تقادم الزمان لا يقام باقى الحد عليه وذلك لأن الثابت أنه فى حقوق الله يقوم الحاكم بحقه تعالى بالاستيفاء إذا ثبت عنده بلا شبهة فكان الاستيفاء من تتمة القضاء.
وإذا كان الأمر كذلك و كان قيام الشهادة شرطاً حال الاستيفاء كما هو شرط حال القضاء بحق غيره إجماعاً وبالتقادم لم تبق الشهادة فلا يصح القضاء الذى هو الاستيفاء([13]).
وقد جاء فى المبسوط:
إذا ثبت حد الزنا على الرجل بشهادة الشهود وهو محصن أو غير محصن فلما أقيم عليه بعضه هرب فطلبته الشرطة فأخذوه فى فوره أقيم عليه بقية الحد لأن الهروب غير مسقط عنه ما لزمه الحد.
ولما كان التقادم إذا كان لعذر ظاهر لا يكونً قدحاً بالشهادة فإذا هرب فوجد بعد أيام فى القياس أنه لا يمتنع إقامة بقية الحد عليه لأنه إذا تأخر لعذر وهو هربه فلا يكون ذلك قدحاً فى الشهادة ولكنه استحسن فقال: العارض فى هذه الحدود بعد الشهادة قبل الإتمام كالمعترف بالشهادة بدليل عمى الشهود وردتهم وهذا لأن التفريط هنا كان من أعوان الإمام حتى تمكن من الهروب منهم فالظاهر أنهم مالوا إلى اكتساب سبب درء الحد عنه ثم حملتهم العداوة على الجد فى طلبه فكان هذا والضغينة فى الشهود سواء([14]).
وجاء بالمبسوط أيضاً:
وإذا حكم عليه بالقطع بشهود في السرقة ثم أنفلت ولم يكن حكم عليه حتى أنفلت فأخذ بعد زمان لم يقطع لما بينا أن حد السرقة لا يقام بحجة البينة بعد تقادم العهد، والعارض في الحدود بعد القضاء قبل الاستيفاء كالعارض قبل القضاء وإن أتبعه الشرطة وأخذوه من ساعته قطعت يده لأن مجرد الهرب ليس بمسقط للحد عنه ولأنه لم تتمكن هنا تهمة التهاون والتقصير في الطلب من أحد([15]).
ثانياً: جمهور الفقهاء – مالك والشافعى وأحمد يرون أن العقوبة لا تسقط بالتقادم وهو قول زُفّر.
المبحث الثالث : مـــــــدة التقادم
تعددت أقوال الفقهاء فى تحديد مدة التقادم وذلك على النحو التالى:
( 1 ) ـ قال محمد فى الجامع الصغير أن مدة التقادم هى ستة أشهر.
( 2 ) ـ الإمام الأعظم أبو حنيفة لم يحدد للتقادم مدة. وقد قال أبو يوسف: جهدنا بأبى حنيفة أن يقدره لنا فلم يفعل وفوضه إلى رأى القاضى فى كل عصر وذلك لاختلاف أحوال الناس و الشهود والعرف والعادة والتوقيت.
( 3 ) ـ ما نقل عن محمد بن الحسن من أن أبا حنيفة قدر مدة التقادم بشهر لأن ما دونه عاجل حيث يستند إلى قول أبى حنيفة: لو سأل القاضي الشهود متى زنى طيها فقالوا: منذ أقل من شهر أقيم الحد وإن قالوا شهراً أو أكثر درئ عنه الحد. قال أبو العباس الناطفى: فقدره على هذه الراوية بشهر ويقال بأن هذا هو الرأى الأصح.
موقف الأحناف من التقادم فى بعض الجرائم:
أولا: تقادم جريمة شرب الخمر: يرى أبو حنيفة وأبو يوسف أن جريمة شرب الخمر تتقادم بزوال الرائحة فالشهادة مقيدة بوجود الرائحة فلابد شهادتهما بالشرب أن يثبت عند الحاكم أن الريح قائم حال الشهادة وأن يشهدا به وبالشرب أو يشهدا بالشرب فقط. فأمر القاضى باستكناهه فيستنكهه ويخبره بأن ريحها موجودة.
وأما إذا جاءوا به من بعيد فزالت الرائحة فلابد أن يشهدا بالشرب ويقولا أخذناه و ريحها موجودة لأن مجيئهم به من مكان بعيد لا يستلزم كونهم أخذوه فى حال قيام الرائحة فيحتاجون إلى ذكر ذلك للحاكم خصوصاً بعد احتمال كونه سكران من غير الخمر فإن ريح الخمر لا توجد من السكران من غيرها ولكن المراد هذا لأن الحد لا يجب عند أبى حنيفة وأبى يوسف بالشهادة مع عدم الرائحة فالمراد بالثانى أن يشهدوا بأنه سكر من غيرها مع وجود رائحة ذلك المسكر الذى هو غير الخمر.
وكذلك عليه الحد إذا أقر وريحها موجودة لأن جناية الشرب قد ظهرت بالبينة والإقرار ولم يتقادم العهد([16]).
ويستدل في ذلك بقول ابن مسعود رضى الله عنه فيمن شرب الخمر ترتروه ومزمزوه واستنكهوه. فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه، وبما روى عن عمر رضى الله عنه أنه قد أتى برجل قد شرب الخمر بعد ما ذهبت رائحتها وأعترف به فعزره ولم يحده.
وعند أبى حنيفة وأبى يوسف لا يقام الحد على المقر بالشرب إلا إذا أقر عند قيام الرائحة لأن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة ولا إجماع إلا برأي ابن مسعود وقد شرط قيام الرائحة لوجوب الحد([17]).
وكل ذلك إذا لم يكن بين المتهم والإمام مسافة. فإن ذهبوا به إلى الأمام فى بلد بعيد فإن اختفت منه رائحة الخمر يحد على جميع الأقوال لأن التـأخير لعذر يرجع إلى بعد المسافة فلا يتهم الشاهد فى هذا التأخير.
والأصل في ذلك أن قوماً شهدوا عند عثمان على عقبة بشرب الخمر وكان بالكوفة فحمله إلى المدينة فأقام عليه الحد.
أما عند محمد بن الحسن فإن جريمة شرب الخمر تتقادم كما تتقادم غيرها من الجرائم غير أن هذا التقادم مقدر بالزمان عند محمد اعتبارا بحد الزنا أى أنه ستة أشهر أو أنه مفوض إلى رأى القاضى أو بشهر وهو المختار وهذا لأن التأخير بتحقق بمضى الزمان بلا شك بخلاف الرائحة لأنها قد تكون من غير الخمر.
وذلك لأن رائحة الخمر تلتبس بغيرها فلا يناط شئ من الأحكام بوجودها ولا بذهابها. ولو سلمنا أنها لا تلتبس على ذوى المعرفة فلا موجب لتقييد العمل بالبينة بوجودها لأن المعقول تقييد قبولها بعدم التهمة. والتهمة لا تتحقق فى الشهادة بسبب وقوعها بعد ذهاب الرائحة بل بسبب تأخير الأداء تأخيراً يعد تفريطاً وذلك منتفٍ فى تأخير يوم ونحوه وبه نذهب الرائحة.
والحديث المروى عن بن مسعود ليس فيه شهادة منع من العمل بها لعدم الرائحة وقت أدائها بل ولا الإقرار إنما فيه أنه حده بظهور الرائحة بالترترة والمزمزة.
وقد استبعد بعض أهل العلم حديث ابن مسعود من جهة المعنى وهو أن الأصل فى الحدود أنه إذا جاء صاحبها مقراً أن يرد أو يدرأ ما أستطيع فكيف يأمر ابن مسعود بالمزمزة عند عدم الرائحة ليظهر الريح فيحده ؟ فإن صح، فتـأويله أنه كان رجلاً مولعاً بالشرب مدمناً إياه فإستجاز ذلك فيه.
والإقرار في هذه الجريمة لا يبطله التقادم عند محمد كما فى حد الزنا وذلك لأن البطلان للتهمة والإنسان لا يتهم على نفسه([18]).
ثانياً: تقادم جريمة قطع الطريق:
في الفقه الحنفى رأيان فى تقادم جريمة قطع الطريق:
أنه إذا قطع الطريق وأخذ المال ثم ترك ذلك وأقام فى أهله زماناً لم يقم الأمام عليه الحد لمضى المدة. وهذا يقضى به الاستحسان لتوبته وتحوله عن تلك الحالة قبل أن يقدر عليه. أما القياس فيقضى بـأن يقام عليه الحد لأن الحد لزمه بارتكاب سببه.
وسند الرأى الأول القائل بالاستحسان ما روى عن أن الحارث ابن زيد قطع الطريق ثم ترك ذلك وتاب فكتب على بن أبى طالب رضى الله عنه إلى عامله بالبصرة، إن الحارث بن زيد كان من قطاع الطريق وقد ترك وتحول عنه فلا تعرض له إلا بخير([19]).
ثالثاً: تقادم جريمة القذف:
جريمة القذف عند الأحناف يغلب فيها حق العبد على حق الله ولذلك تعتبر خصومته وطلبه فلا يقبل فى هذه الجريمة من المتهم أن يرجع عن إقراره بارتكابه لها.
كذلك يقام الحد بحجة البينة بعد تقادم العهد لعدم تمكن الشهود من أداء الشهادة قبل طلب المدعى فلا يصيرون متهمين بالضغينة([20]). أما فى الحدود التى هى محض حق الله تعالى كما فى الزنا فلا يقام الحد بحجة البينة بعد تقادم العهد([21]).
وبذلك يمكن القول تلخيصاً لما سبق أنه:
1) أن جمهور الفقهاء عدا الأحناف وعلى رأسهم مالك والشافعية وأحمد يرون أن التقادم غير مؤثر فى الدعوى أو العقوبة مهما طال الزمان.
( 2 ) ـ أن التقادم يؤثر فى إبطال الشهادة عند الأحناف كما أنه يؤثر فى الدعوى ويسقط العقوبة.
اختلاف الأحناف في المدة المقررة للتقادم سواء فى الشهادة أو الجريمة أو العقوبة.
2) يمكن القول أن الأمام الأعظم أبا حنيفة قرر ترك مدة التقادم وتوكيله وتفويضه للقاضى حسب الظروف كل عصر وحسب مقتضيات الأحوال والزمان والمكان والمصلحة العامة مع مراعاة المصلحة العامة.
المبحث الرابع : تقادم الجريمة والعقوبة في القانون
أولاً : انقضاء الدعوى الجزائية العامة من قانون الإجراءات الجزائية السعودي :
تنص المادة 22 من قانون الإجراءات الجزائية السعودي على :
تنقضى الدعوى الجزائية العامة في الحالات الآتية :
1- صدور حكم نهائي.
2- عفو ولي الأمر فيما يدخله العفو.
3- ما تكون التوبة فيه بضوابطها الشرعية مسقطة للعقوبة.
4- وفاة المتهم.
ولا يمنع ذلك من الاستمرار في دعوى الحق الخاص.
وتنص المادة 23 من ذات القانون على أنه : تنقضى الدعوى الجزائية الخاصة في الحالتين الآتيتين :
1- صدور حكم نهائي.
2- عفو المجني عليه أو وارثه.
ولا يمنع عفو المجنى عليه أو وارثه من الاستمرار في دعوى الحق العام.
وعلى ذلك يمكن القول بأن نظام الإجراءات الجزائية في المملكة العربية السعودية لم يعرف التقادم كسبب لانقضاء الدعوى الجنائية.
ثانياً : في قانون الإجراءات الجنائية المصري :
أما في النظام القانوني المصري فإن الدعوى الجنائية تنقضى بمضى المدة وذلك استناداً لعدم توافر المصلحة في العقاب بعد أن مضت مدة على ارتكاب الجريمة.
حيث نصت المادة 15 من قانون الإجراءات الجنائية على سقوط الدعوى الجنائية في مواد الجنايات بمضى عشر سنين من يوم وقوع الجريمة وفي مواد الجنح بمضى ثلاث سنين وفي مواد المخالفات بمضى سنة ما لم ينص على خلاف ذلك.
وكما تسقط الدعوى تسقط العقوبة، حيث نصت المادة 528 من قانون الإجراءات على أنه : تسقط العقوبة المحكوم بها في جناية بمضى عشرين سنة ميلادية إلا عقوبة الإعدام فإنها تسقط بمضي ثلاثين سنة.
وتسقط العقوبة المحكوم بها في جنحة بمضى خمس سنوات.
وتسقط العقوبة المحكوم بها في مخالفة بمضى سنتين.
وتبدأ المدة من وقت صيرورة الحكم نهائياً إلا إذا كانت العقوبة المحكوم بها غيابياً من محكمة الجنايات في جناية فتبدأ المدة من يوم صدور الحكم (م 529 إجراءات جنائية مصري).
المراجـــــع
1- أحمد فتحى بهنسى: نظريات فى الفقه الجنائي الاسلامى، دراسة فقهية مقارنة 1409هـ.
2- عبد العليم محمد محمدين: نطاق سريان التشريع الجنائي في الشريعة الإسلامية 1420هـ.
3- عبد القادر عـــودة: التشريع الجنائى الإسلامي – المجلد الأول 1424 هـ.
4- شرح فتح القدير لكمال الدين ابن الهمام.
5- المحلى لأبن حزم 1352هـ.
6- المدونة الكبرى رواية سحنون 1323هـ.
7- كشف القناع على متن الاقناع للعلامة منصور البهوتى 1366هـ.
8- أسنى المطالب فى شرح روض الطالب للإمام زكريا الانصارى 1304هـ.
9- المبسوط لشمس الدين السرخسى 1324هـ.
([1]) أ / عبد القادر عودة: التشريع الجنائي الاسلامى، المجلد الأول ص673. ط 2003.
([2]) د. أحمد فتحى يهنسى: نظريات فى الفقه الجنائي الاسلامى، دراسة فقهية مقارنة دار الشروق، الطبعة الخامسة، 1409هـ، 1988 ص208 وما بعدها.
([3]) سورة الطلاق: الآية 2.
([4]) شرح فتح القدير: لكمال الدين بن الهمام المتوفى سنة 681 هـ الجزء الرابع ص162.
([5]) المرجع السابق: الجزء الرابع ص 225.
([6]) يراجع فى عرض ذلك الرأى د. عبد العليم محمد محمدين:نطاق سريان التشريع الجنائى فى الشريعة الإسلامية ، الطبعة الأولى 1420 هـ ، 2000 م، الجزء الأول ص300.
([7]) الجامع الصغير للفقه للإمام محمد بن الحسن الشيبانى: منشور بهامش كتاب الخراج للأمام أبى يوسف، ط 1302 هـ ص65.
([8]) المحلى: لأبى محمد على بن حزم المتوفى عام 456 هـ طبعة 1352 هـ.
([9]) المدونة الكبرى: رواية سحنون ط 1323 هـ ص89 الجزء 16.
([10]) للعلامة الشيخ منصور بن يونس بن إدريس البهوتى: المتوفى 1001 هـ. طبعة 1366 هـ. الجزء السادس ص103.
([11]) للإمام زكريا الأنصارى: المتوفى سنة 926 هـ. طبعة 1304 هـ، الجزء الرابع ص 132.
([12]) لشمس الدين السرخسى: ويحتوى على كتب ظاهر الرواية للإمام محمد بن الحسن.
([13]) فتح القدير ، الجزء الرابع ، 163.
([14]) المبسوط لله فى ، الجزء 9 ص70.
([15]) المرجع السابق الجزء 9 ص176.
([16]) فتح القدير : جزء 4 ص 179.
([17]) فتح القدير : جزء 4 ص 184.
([18]) المبسوط: جزء 9 ص 172.
([19]) أحمد فتحى بهنسى: مرجع سابق 217.
([20]) المبسوط: جزء 9 ص 110.
([21]) المبسوط: جزء 9 س69.
تقادم الجريمة والعقوبة فى الفقه الإسلامي 12/03/2010 الدكتور/حسين صلاح عبدالجواد محامي واستاذ القانون بجامعة حلون بمصر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق